"الناس لا يخشون اقتراف الذنوب قدر ما يخشون الخيال".. انتهيت من قراءة رواية (طعم النوم) للمبدع طارق إمام، الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، وفيها يدخل "إمام" مرحلة جديدة فى مسيرته الإبداعية.
بعد الانتهاء من قراءة الرواية، كنت مشغولًا بطريقة كتابتها، فالمعروف أن المبدعين بوجه عام يتحركون غالبًا من هاجس يخصهم (فكرة ما) تظل تطاردهم من أجل كتابتها، وفى هذه الحالة يكونون أحرارا تمامًا فى طريقة التعامل معه وفى استخدام الخيال الذى يرونه مناسبا لها، لكن ما حدث مع طارق إمام جاء مغايرا تماما، ولو شئت الدقة سأقول إن الهاجس الذى طارده كان مختلفا وشرسًا، فقد كان هاجسه "حرفنة الكتابة" فقد اختار بكامل إرادته أن يدخل فى تحدٍ مع "كتابة جميلة وناجحة".
منذ البداية، يقول لك طارق إمام أن ما ستقرأه سيتقاطع مع روايتين مهمتين، الأولى هى "الجميلات النائمات" لـ كاواباتا والثانية هى "ذاكرة عاهراتى الحزينات" لـ ماركيز، لكنك حتما سوف تجد شيئًا مختلفًا، وبالفعل عمل طارق إمام على تغيير كل شيء، لكنه ظل محتفظا بشواهد دالة، ففى الرواية سوف تجد بيئة مصرية تمامًا بأحداثها وطبيعة شخصياتها وملامح مدينة الإسكندرية، كما ستجد أصواتا مغايرة تقود السرد طوال الرواية.
احتشد طارق إمام، جيدًا لهذه الرواية، لم يتعامل معها بكونها مغامرة تحسب له، بل أعد لها عدتها، ورسم لها شخصياتها، وشذب لها لغتها وجعلها حافلة بالمعاني، وقدمها فى صورة مناسبة، حتى أننى فى بعض الأوقات رأيته يتعامل مع الرواية بجدية أكثر من المطلوبة.
شجعتني الرواية على قراءة نصوص أخرى منها ما يتعلق ببعض أعمال طارق إمام نفسه، فالرواية مثقفة جعلت من التاريخ خلفية لها، ومن الأحداث الحقيقية الفاصلة المتعلقة بالهزائم والانتصارات والثورات قوسين كبيرين لا يسمحان لعالم الرواية المتداخل أن ينفرد وحده بالقارئ.
إن الرواية حكاية عن بيت ذى طابع غريب يقع فى مدينة الإسكندرية، لكنه ليس مثل كل البيوت، كان معدًا للدعارة لكنه صار معدًا للعجائز وحكاياتهم وذكرياتهم، هو بيت للعذراوات والعجائز معًا، جعله طارق إمام شاهدًا على سنوات حرجة من حياة الجميع، تشكل البيت من أحلام "جبريل" ورغبته الأخيرة فى إكمال روايته الناقصة، ومن قوة شهرزاد وخوفها معا، كان البيت حافلا بتنوع الحكايات وتداخلها، فهنا بنات جميلات يدفعن ثمنًا فادحًا ومدينة يحيط بها العجائز طوال الوقت، يصنعون مستقبلها، ووسط كل ذلك رواية تُكتب الآن، وكتب غرائبية يصدرها الرملى، ونساء يصنعن الحياة طوال الوقت، حتى إن تدخلن لإنهائها أحيانا.
رواية "طعم النوم" خالصة من أجل الفن، فهو وحده الذى يضع الإطار المناسب للشخصيات الخيالية، ويجعلها تتجاوز الزمن وتتحول لثلاثة أجيال، ثلاثة نساء، هن الإطار الزمنى للرواية المحكية، وامرأة أخرى مولودة للتو توحى باستمرار الحياة بالطريقة نفسها.
بعدما انتهيت من قراءة الرواية عرفت أن طارق إمام نجح فى تحديه لنفسه، وأنه سيظل مخلصا لخياله، فهو يعرف أن الرواية تتجاوز فن "الحدوتة" وقد نجح فى صنع عالمه فى "بيوت النائمات ومدينة العجائز".