«دع سمائى فسمائى محرقة، دع قناتى فمياهى مغرقة، واحذرِ الأرض فأرضى صاعقة»، هكذا تغنت المطربة فايدة كامل، من كلمات الشاعر كمال عبد الحليم، وألحان الموسيقار على إسماعيل، فى شكل من أشكال المقاومة بالفن، والدور الكبير الذى لعبه الفن والثقافة فى مواجهة عدوان 1956م.
63 عاما مرت على بدء العدوان الثلاثى من جانب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، وبالتحديد مدينة بورسعيد الباسلة، ردًا على قرار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية فى 26 يوليو 1956، ردا منه على رفض الدول الكبرى تمويل مشروع السد العالى، لكن ببسالة مدينة بورسعيد ورجال المقاومة الشعبية فى أنحاء المحروسة، ومساندة المجتمع الدولى لمصر، بقيادة الاتحاد السوفيتى، انهزم العدوان، وخرج حاملا خيبته، وتسببت هزيمته فى أفول نجم القوى الاستعمارية التقليدية.
المقاومة فى العدوان الثلاثى أو كما يعرف بحرب السويس، شهدت مقاومة مسلحة وقوى ناعمة ظهرت رافضة للعدوان، وترابطت قوى الشعب مع رجال الجيش المصرى، ورسم الفن والثقافة صورة رائعة فى مقاومة القوى الناعمة للحروب المسلحة، ووقف الإخوان كعادتهم فى موقف الخيانة المعادى لمصر ولجيشها وسلطتها الوطنية.
بحسب الباحث الدكتور على ياسين الجبورى، فى كتابه «موقف جامعة الدول العربية من العراق»، كان من الأسباب غير المباشرة لقيام دول العدوان بالحرب على مصر، هو دور مصر فى قيام منظمة عدم الانحياز، والذى عقد أول مؤتمر لها فى عاصمة دولة إندونيسيا عام 1955، وكذلك مواجهة الحلف الاستعمارى الذى دعت إليه القوى الاستعمارية المسمى بحلف «بغداد» فى نفس العام، وتوقيع مصر اتفاقية مع الاتحاد السوفيتى آنداك يقضى بتزويد مصر بالأسلحة المتقدمة والمتطورة بهدف تقوية وتعزيز قواتها لمواجهة الخطر الصهيونى، كان وراء تخطيط الكيان الصهيونى للمشاركة فى الحرب على مصر، كما أن دعم مصر المباشر للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسى وإمدادها بالمساعدات اللوجستية أغضبت الفرنسيين وبذلك أرادت الانتقام من الدور المصرى وشاركت فى العدوان.
أما الأسباب المباشرة، فكانت فى مقدمتها تأميم قناة السويس الذى أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1956، فى ذكرى ثورة يوليو، هذا القرار الجرىء منع بريطانيا من السيطرة التى كانت تدير القناة قبل التأميم، وبذلك دخلت بريطانيا فى العدوان.
لخص الكتاب سالف الذكر أسباب انسحاب وفشل قوات العدوان الثلاثى على مصر فى عدة نقاط، منها شدة المقاومة المصرية وتلاحم الشعب والجيش ضده، فضلًا عن معارضة الولايات المتحدة الأمريكية للعدوان، وتأييد الاتحاد السوفيتى لمصر وتهديده بالتدخل العسكرى لوقف العدوان، بالإضافة إلى تنديد الأمم المتحدة بالعدوان ومطالبته بانسحاب القوات المعتدية، ووقوف الشعب العربى إلى جانب مصر.
كان من بين أبرز نتائج فشل العدوان، هو انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد فى 23 ديسمبر عام 1956م، ولذلك تحتفل محافظة بورسعيد فى ذلك اليوم من كل عام بعيد جلاء العدوان، انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ومن سيناء، والذى جاء متأخرًا فى أوائل عام 1957م، وتم وضع قوات طوارئ دولية على الحدود بين مصر والأرض المحتلة.
بحسب الشاعر والفنان البورسعيدى، محمد عبدالقادر، الحاصل على جائزة الدولة التقديرية، فى تصريحات صحفية سابقة، أكد بروز دور أغانى السمسمية فى مقاومة العدوان الثلاثى، مشيرا إلى أنه خلال المعركة برز دور الفنانين الشعبيين محمد أبو يوسف والداش الدمرداش وكمال عضمة وآخرين فى كتابة وتلحين الأغانى الوطنية المحرضة على المقاومة، وغنوا أغان من أمثال «ده قنالنا وبحرنا وده خيرنا وعزنا واللى حفره قبلنا أجدادنا وأهلنا»، فى إشارة إلى حق المصريين فى تأميم القناة ورفض العدوان، وغنوا أيضًا: «إيدن وبن جوريون وموليه، جايين يحاربونا على إيه، هوه القنال ده فى أراضيهم ولا احنا خدناه مِنِّيهم، دى قنبلة وضربت فيهم واللى ضربها رئيسنا جمال».
وأشار «عبد القادر» إلى أن الأغانى التى ظهرت فى فترة العدوان رصدت وسجلت ليوميات المقاومة، وإبراز أعمال المقاومة، مثلما حدث بعد اختطاف الضابط البريطانى ميرهاوس ووفاته، حيث غنت السمسمية أغنية: «ميرهاوس ليه بس أجيت، من لندن هنا واتعديت، وآهى مُوتَّك جت جوة البيت، ميرهاوس ليه بس أجيت»، وتواصل الأغنية فى سخرية من العدوان وتقدير بطولة شباب وتحكى تفاصيل عملية الاختطاف».
كما كان للفرق الشعبية فى بورسعيد والسويس دور فنى كبير، حيث شاركوا فى المقاومة ضد العدوان وأنشدوا أجمل أغانى الحب لمصر وللأرض.
كبار المطربين قاموا بالغناء خصيصًا وقت العدوان لتحميس الشعب والمقاومة الشعبية ضد قوات العدوان، ومنها أغنية «والله زمان يا سلاحى»، والتى أصرت أن تسجلها أم كلثوم فى الإذاعة المصرية رغم حالة الحرب وقتها، وهى من كلمات صلاح جاهين، وألحان كمال الطويل، وكانت هناك أصوات غنائية تنشد قصائد ما زالت تعيش فى وجدان المصريين مثل قصيدة «دع سمائى فسمائى محرقة دع قناتى فقناتى مغرقة» من أشعار محمود حسن إسماعيل وغناء فايدة كامل وكذلك الأغنية التى كتبها أحمد رامى للسيدة أم كلثوم و«هى مصر التى فى خاطرى وفى فمى»، وأغنية «أمانة عليك يا مسافر بورسعيد»، وهى من كلمات إسماعيل حبروك، وألحان محمد الموجى وغناء شادية.
كما غنى العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ أغنية «حكاية شعب» والتى تجسد كفاح المصريين من أول الاستعمار الإنجليزى وحتى العدوان الثلاثى وما بعده، كما غنى «حليم» أغانى كثيرة عن حرب 56 ومن أهمها أغنية السد العالى التى يشيد فيها بتأميم قناة السويس والتفاف الشعب المصرى حول الزعيم جمال عبد الناصر.
بل ويذكر الناقد الفنى الكبير طارق الشناوى، أن فنانة مثل الراحلة الكبيرة تحية كاريوكا، حملت السلاح سنة 1956 للدفاع عن مصر فى العدوان الثلاثى، وعبرت عن حبها الشديد للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رغم قضائها 101 يوم بالمعتقل بسبب آرائها السياسية وحبها لوطنها.
موقف المثقفين فى ذلك الوقت أيضًا لم يكن أقل من دور الفنانين، حيث رد عميد الأدب العربى وسام «اللجيون دونور» الذى منحته له الحكومة الفرنسية من طبقة «جراند أوفسييه»، احتجاجا على العدوان الثلاثى على مصر 1956، كما قام الأديب فتحى رضوان بتأسيس مجلة «المجلة» عقب العدوان، لتكون منارة فكرية تصدر من القاهرة، للتعرف على الثقافة العربية والعالمية.
المطربون العرب دعموا المقاومة المصرية مثل المطرب اللبنانى محمد سلمان الذى غنى «لبيك يا علم العروبة» من ألحانه وتأليفه، حيث كان يعيش فى مصر فى تلك الفترة، كما تغنت المطربة اللبنانية الكبيرة نجاح سلام، «نيل مصر الجارى»، من كلمات محمود حسين إسماعيل، والملحن رياض السنباطى.
فيما يذكر معجم البابطين، دور الشاعر العراقى الكبير محمد جعفر الشبيبى، الوطنى، وكيف أسهم فى المشاركة فى الأحداث السياسية والوطنية فى عصره، ومنه تعبيره عن موقفه من العدوان الثلاثى على مصر «1956»، والتعبير عن آماله وأحلامه السياسية والوطنية، والتوجه بالتحية إلى بعض أعلام عصره وفنانيه.
اختار الزعيم الخالد جمال عبد الناصر منبر الجامع الأزهر فى اليوم التالى للعدوان ليلقى خطابته الشهير الذى أعلن فيه الجهاد المقدس ضد جيوش الطغاة المعتدين، وانطلقت صيحة مدوية مجلجلة فى أسماع العالمين وانتفض الشعب المصرى انتفاضة كبرى على إثر هذا الإعلان.
وعلى الصعيد الداخلى، أصدر الأزهر من خلال شيخه وكبار علمائه البيانات المتلاحقة بما ينبغى له وما يجب عليه فى مواقف المحن والشدائد مستلهمًا فى ذلك روح الإسلام وقوانين الإسلام فى أحوال الحرب والسلام، فعقب إعلان الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، أصدر شيخ الأزهر عبدالرحمن تاج بيانًا بعنوان «الموت دفاعًا عن الوطن شهادة»، وأكد شيخ الجامع الأزهر وكبار علمائه، عقب العدوان الثلاثى على مصر، بعنوان «نداء من شيخ الأزهر وعلمائه»، معلنين فيه استنكارًا شديد اللهجة على هذا العدوان.
وعلى الصعيد الخارجى: فقد قام الأزهر من خلال شيخه بمراسلة ملوك ورؤساء عدد من الدول فى الشرق والغرب مثل: باكستان، والهند، وإندونيسيا، وسيلان، والاتحاد السوفيتى، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيران، لتوضيح أبعاد الموقف؛ من أجل القيام بعمل حاسم لإنجاز سحب قوات العدو فورًا من مصر، ورد إسرائيل وراء خطوط الهدنة حقنًا للدماء وتوطيدًا للسلام.
الشعب العربى وقف موقفًا شجاعًا داعمًا للمقاومة المصرية ضد دول العدوان، فيذكر المرجع الدينى العراقى محمد حسين فضل الله، حسبما جاء فى كتاب «محمد حسين فضل الله: العقلانية والحوار من أجل التغيير» لعدد من المؤلفين، أن العراقيين كسائر العرب، رأوا فى العدوان عملا غادرا، فثارت مشاعرهم مع باقى الجماهير العربية، وعبروا عن استناركم لهذه الحرب بتظاهرات ومسيرات عمت جميع أنحاء بلاد الرافدين، مما أسفر عن مواجهات شرسة مع القوى الأمنية بسبب الغليان الجماهيرى.
ووفقًا لكتاب «أوراق شامية من تاريخ سورية المعاصر» فإن الرئيس السورى الأسبق شكرى القوتلى، اتصل بـ«ناصر» وأبدى استعداد سورية لتنفيذ الدفاع المشترك ولأى عمل تكلفه به القيادة المتشركة، وبادرت بالفعل الجبهة السورية فى تشكيل مجموعة مكونة من لواء مشاة ولواء مدرع وثلاثة أفواج مدفعية وأرسلتها إلى الأردن، بالإضافة إلى قيام الجانب السورى بقطع العلاقات الدبلوماسية مع حكومتى فرنسا وبريطانيا، احتجاجًا على العدوان، وقام الرئيس شكرى القوتلى بزيارة موسكو ليطلب مزيدًا من الدعم لمصر فى مواجهتها للعدوان الآثم على مصر.
وحسبما جاء فى كتاب « جمال عبد الناصر وعصره» فإن الشعوب العربية أضربت إضرابًا عامًا إبان العدوان، فقد دمر المواطنون فى سوريا أنابيب البترول المارة بأراضيهم التى تحمل البترول للدول الغربية، وضحت سوريا بالموارد المالية التى كانت تدخل خزانتها لتعلن تضامنها مع مصر، وفى نفس الوقت رفض العمال العرب فى كثير من الموانئ العربية التعاون مع السفن البريطانية والفرنسية، كما رفضوا القيام بعمليات الشحن والتفريغ لها، ودمر العمال العرب فى ليبيا أحد المطارات البريطانية العسكرية هناك.
وجاء فى كتاب «حرب التواطؤ الثلاثى» تأليف كل من حسن أحمد البدرى، فطين أحمد فريد، أن موقف الشعب العربى كان واحدًا فى بغداد أو عمان أو دمشق أو بيروت أو الخرطوم أو طرابلس، فكل وقف ضد العدوان الثلانى، ووقفت الحكومات إلى إعلان تأييدها لمصر، فقامت المملكة العربية السعودية فى نفس السياق حذو سوريا، بإعلانها قطع العلاقات مع فرنسا وإنجلترا، كما قامت المملكة بإعلان التعبئة العامة وأبلغ الملك سعود الرئيس عبد الناصر استعداد بلاد الحرمين الشريفين لتنفيذ اتفاقية الدفاع المشترك، وقامت الأردن أيضًا بقطع علاقتها مع الدولتين، وفى لبنان خرجت المظاهرات الصاخبة وألقى المتظاهرون المتفجرات على النوادى البريطانية.
قبل عامين من العدوان الثلاثى على مصر، وبالتحديد عام 1954، قامت حكومة ثورة يوليو بحذر جماعة الإخوان المسلمين على خليفة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، فما كانت من الجماعة الانتقام من السلطة بخيانة البلاد، فيذكر كتاب «التاريخ الأسود للجماعة: بين يهودية حسن البنا وماسونية الإخوان» للدكتور ياسر حلمى الشاعر، أن الإخوان قامت بتحالف دنىء مع بريطانيا أثناء العدوان الثلاثى، يضاف إلى سجل الجماعة الحافل بالخيانات والمؤامرات ضد الوطن، ورغم أن دول العدوان كان فيها إسرائيل عدوًا للدين قبل الوطن، إلا أنهم ساندوا عدوانها على مصر، ليدخض موقفها تمامًا أى انتماء لجماعة الإخوان للإسلام.
ويشير الكاتب عمرو سنبل فى كتابه «عدوان يناير الثلاثى»، إن بريطانيا أرادت ضرب التيار القومى فى سوريا ومصر باستخدام الإخوان، لافتا إلى أنه بعد فشل العدوان، خططت بريطانيا للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله عقب حرب السويس، بالتعاون مع الإخوان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة