ملفات شائكة بانتظار زعماء "الناتو" فى منتجع "سيلتيك مانور" بمدينة ويلز البريطانية، وعلى رأسها حالة الانقسام غير المسبوقة، والتى يعانيها أعضاء التحالف، على خلفية الموقف من روسيا، بالإضافة إلى التصريحات التى أدلى بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والذى وصف التحالف بـ"الميت إكلينيكيا"، قبل أسابيع، وهى التصريحات التى أثارت شكوكا كبيرة حول مستقبل الحلف، الذى يعد رمزا تاريخيا للمعسكر الغربى، منذ حقبة الحرب الباردة، وكذلك حالة الشرود التركى بعيدا عن مبادئ الغرب، عبر التقارب مع موسكو، وشرائها منظومة صواريخ روسية فى انتهاك صريح للقواعد التى يتبناها الناتو منذ عقود، والتى تقوم على عدم الاستعانة بأسلحة روسية.
ولعل الانقسام داخل الناتو ليس وليد اللحظة، حيث شهدت السنوات الماضية حالة من التضارب بين مصالح الحلفاء، مع توجه إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نحو رفع حمايتها عن أوروبا الغربية، ومحاولاتها نحو تفكيكها، بالإضافة إلى ارتماء تركيا فى أحضان موسكو، فيما يتعلق بالموقف من سوريا، على حساب الغرب، فى حين تبقى المواقف الفرنسية المرتبكة، بين التقارب مع روسيا تارة، والهجوم عليها تارة أخرى، محلا للجدل، ليصبح موقف التحالف من خصمه الروسى التاريخى، على رأس أجندة القمة المرتقبة فى لندن فى الأيام المقبلة، على الرغم من عدم الإعلان ذلك بشكل مباشر، حيث تدور الأحاديث المعلنة على مسائل تقليدية أبرزها مواصلة الحرب على تنظيم داعش الإرهابى، وتعزيز الإجراءات التي يتخذها الحلف للرد على الأحداث الواقعة على حدود أعضائه، والتهديدات التى يواجهها الحلف.
هجوم استباقى.. أنقرة تصرف الانتباه عن انتهاكاتها بحق الناتو
ويمثل الهجوم الأخير للرئيس التركى رجب طيب أردوغان، على نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، والتى وصلت إلى استدعاء السفير التركى لدى باريس، دليلا دامغا، ليس فقط على حالة الانقسام التى ضربت التحالف فى الآونة الأخيرة، وإنما تعكس المأزق الذى تعانيه أنقرة، حيث يحاول صرف الانتباه عن مواقف أنقرة المثيرة للجدل، وعلى رأسها تقاربه مع روسيا، وكذلك رفضه لتوجه الحلف نحو السير خلف واشنطن، فيما يتعلق بتغيير توجهاته العسكرية نحو أوروبا الشرقية، فى محاولة لحصار روسيا، خاصة وأن مثل هذه الخطوة ربما تثير حفيظة موسكو، وبالتالى قد تضع الديكتاتور العثمانى المزعوم تحت نير غضب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والذى يبقى مسيطرا على مقاليد الأمور فى منطقة الشمال السورى، والتى تراها تركيا نقطة تهديد صريح لأمنها.
أردوغان وماكرون
التصريحات التركية، والتى تمثل هجوما استباقيا على فرنسا، تحمل فى طياتها مخاوف كبيرة من قبل أنقرة قبل انطلاق القمة، فى ظل حالة الإجماع حول الدور الذى تلعبه تركيا فى انقسام التحالف، ليس فقط بسبب شرائها لمنظومة الصواريخ الروسية، ولكن أيضا بسبب عدوانها الأخير على شمال سوريا لاستهداف الأكراد، والذين لعبوا دورا رئيسيا فى الحرب على داعش، خاصة وأن هذا الهجوم يعد مخاطرة كبيرة وغير محسوبة، حيث وضع قوات التحالف الدولى المتواجدة فى تلك المنطقة فى دائرة الخطر، وهو ما يمثل انتهاكا جديدا يضاف إلى سلسلة الانتهاكات التى ارتكبتها أنقرة فى الآونة الأخيرة فى حق حلفائها بدول أوروبا الغربية.
شماعة جديدة.. الديكتاتور يحاول تعليق أخطاءه على ماكرون
ويعد التزامن بين التصريحات التركية من جانب، وتراجع الرئيس الفرنسى عن هجومه على الحلف من جانب أخر، محاولة صريحة لتقويض محاولة ماكرون لتهدئة حالة الغضب الذى أدت إليه تصريحاته التى أدلى بها لصحيفة "إيكونومست"، حول موت التحالف إكلينيكيا، والتى بدت واضحا ليس فقط فى الموقف الأمريكى، وإنما امتدت إلى أوروبا الغربية نفسها، حيث رفضت ألمانيا هذه التصريحات معتبرة أن الناتو يبقى رأس الحربة فى حماية الأمن الأوروبى، فى إشارة إلى امتداد حالة الانقسام إلى أعضاء التحالف من دول القارة العجوز، وعدم اقتصاره على العلاقة بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة، فى ظل تغير السياسات الأمريكية تجاه الحلفاء الأوروبيين.
مستقبل الناتو على المحك بسبب الانقسامات
ويمثل هجوم أردوغان على باريس محاولة صريحة لوضع ماكرون فى مواجهة سهام الانتقاد خلال قمة الناتو المرتقبة فى بريطانيا، ليكون بمثابة "شماعة" جديدة يمكنه تعليق أخطاءه عليها، بالإضافة إلى تخفيف الضغوط، التى من المتوقع أن يمارسها الحلفاء على أنقرة خلالها، خاصة فيما يتعلق بالتقارب مع روسيا، فى ظل حديث متواتر عن دور تركى بارز فى تقويض الدور الذى يلعبه الحلف فى السنوات الماضية.
كابوس أنقرة.. أردوغان يبتز الغرب بورقة الأكراد
مخاوف أردوغان لا تقتصر على مجرد الانتقادات المنتظرة من قبل زعماء الغرب، وإنما تمتد إلى كابوس "الطرد" مما يمكننا تسميته بـ"جنة الغرب"، خاصة فى ظل إثارته لملف الأكراد، فى سوريا، ومحاولة استخدامه كورقة لابتزاز الغرب، عبر الضغط عليهم لوضعهم فى قائمة التنظيمات الإرهابية، مقابل الرضوخ لفكرة إعادة هيكلة التوجهات العسكرية للتحالف نحو أوروبا الشرقية فى محاولة صريحة لحصار موسكو، فى المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى يمثل "خط أحمر" بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها فى ظل الدور الكبير الذى لعبته الميليشيات الكردية فى الحرب على تنظيم داعش الإرهابى.
أردوغان ربما لا يستطيع الدوران فى فلك الغرب فيما يتعلق بالتوجه شرقا نحو بولندا، بحسب الرؤية الأمريكية فى المرحلة المقبلة، خاصة وأنه يبقى "تحت رحمة" القيصر الروسى، فى ظل الوجود العسكرى لموسكو فى منطقة شمال سوريا، بالإضافة إلى نجاح بوتين فى تجريده من حلفائه الغربيين، عبر تعميق الارتباط بين المصالح الروسية والتركية، فى العديد من الملفات، وعلى رأسها الملف السورى، وملف التسليح، وبالتالى يجد نفسه من جديد بين مطرقة الغرب وسندان موسكو.