لم يكن مبدأ التعايش السلمى مع المختلف دينيًّا مقصورا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم فقط التى وثّقته وثيقة المدينة، إنما نقلت المصادر التاريخية ما يُعرف بـ«العُهْدة العُمريّة»، نسبة لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حين فتح القدس صُلحًا من غير إراقة الدماء، ودخلها الإسلام، فوقّع مع نصارى القُدس «أهل إيلياء» عهدًا بالأمان، فسجّل التاريخ أنصع الصفحات البيضاء فى قبول الآخر المُختلف دينيًّا.
ومن المقرر أنّ الأصل الأصيل الذى ارتكزت عليه علاقة المسلمين بغيرهم، هو الآية الكريمة الصريحة فى مشروعية التعامل مطلقًا مع غير المسلمين، فى قوله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» «الممتحنة: 8».
وتأتى العهدة العمرية مجسدة للفهم السديد الرشيد من هذه الآية الكريمة، محققة للتعايش بين أرباب المعتقدات المختلفة، بما تمثله من تجربه رائدة موافقة لمقاصد لشرع الشريف من صحابة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورثوه عنه وطبقوه، مما يحقق غايات التشريع، فيذكر الطبرى فى تاريخ الرسل والملوك أنّ عمر بن الخطاب لما صالح أهل إيلياء، كتب هذا الصلح فى صيغة جامعة قال فيها: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم».
فمن خلال هذه العهدة نجد أنّ سيدنا عمر بن الخطاب حين فتح القدس وهى ثالث الحرمين بنبوءة كانت مُطّردة فى ذلك الزمان، لم يُرق الدماء، بل كانت أوّل أولوياته ألا يفعل ذلك.
ثم إن هذا النص المضمن فى العهدة العمرية يُمثّل أصلا أصيلا، وركنًا ركينا، من مبادئ التعايش السلمى بين أصحاب الأديان الأخرى، والتعايش يكون بإضفاء روح الأمان بين المتعايشين، تربطهم رابطة الوطن، ومعايير العقد الاجتماعى الذى ينظم الحقوق والواجبات لكلا الأطراف، هذا فضلًا عن أن مفردات العهدة تُبيّن ما نقوله دائما أنّ الشريعة الإسلامية جاءت لتحفظ على الناس خمس أشياء نسميها الكلّيات الجامعة وهى: «الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض»، والوثيقة رتّبت الحفظ على كلّ هذا.
لا يكرهون على دينهم وهو حفظ الدين.
أعطاهم أمانا لأنفسهم وهو حفظ النفس.
وأموالهم وهو حفظ المال.
ولا يضار أحد منهم وهو حفظ العرض فى أوسع معانيه.
فتمثّلت فى هذه العُهدة أعلى معانى التعايش وتحقيق مبدأ الأخوّة الإنسانية التى تركز على المشتركات المعرفية والأخلاقية، دون التناحر على اللاشىء.
وقد يتساءل البعض، لماذا نجد بعض الناس يرددون أقوالا ربما يُفهم منها أنّ الإسلام يُعادى الآخر المُختلف دينيًّا لمُجرّد اختلافه.؟
والجواب: أنّ الأقوال التى تُنقل إما أن تكون مبتورة من سياقاتها، أو أنها كانت موافقة لواقعة عين معيّنة لا تتجلى لباقى أحوال الناس، أو لسوء فهم من الناقل فأدخل فيها ما ليس منها أو استنبط منها ما يُعزز وجهته العدائية وحسب، فلو سردنا معطيات العُهدة العمرية التى تكلمنا عنها بعد وضع وثيقة تُثبت تلك الحقوق، لوجدنا المصادر التاريخيّة تؤكد لنا أنّ المسلم والمسيحى فى بيت المقدس بعد صكّ العُهدة، طبّقوا مبدأ الاستيعاب الثقافى والفكرى والدينى بينهما، فوجدنا المصادر تنقل لنا عن فلان الكاتب المسيحى، بجوار الكاتب المسلم، ووجدنا البنّاء هذا بجوار هذا، وصنّاع الدوواين، والسقّائين، والخبازين، وهكذا، انصهر المجتمع كلّه فى بوتقة واحدة.
وهذا ما نؤكد عليه دائما أنّ الإسلام من أول نزوله فى النص القرآنى وفى سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم أكد مبدأ التعايش، وسار المسلمون من الصحابة، ومن بعدهم على فهم رسولهم الكريم لذلك تطبيقًا عمليًّا، ظهرت وتجلّت فيه هذه العظمة والقدرة على استيعاب الآخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة