دائما ما تكون المفاجأة والصدمة إحدى مفردات الإبداع فى تنظيم الأحداث الكبرى، وقد جرت العادة أن تكرار حدث ما غالبا ما ينتهى إلى روتينية ونمطية تفقد هذه الأحداث تأثيرها، لكن واضح أن منتدى شباب العالم خرج من هذه القاعدة واحتفظ بقوة التأثير والتميز، هذا ما بدا منذ اللحظات الأولى للمنتدى فى شرم الشيخ، ففى كل تفصيلة هناك مفاجأة ما، وشغف يجعل المتابعة مزدحمة بالتفاصيل الصغيرة التى تصنع مشهدا مدهشا لدرجة كبيرة، حيث يمكن للصحافة والإعلام أن يجدا مواد للنشر ونماذج للمتابعة تزحم جداول العمل.
المنتدى الذى افتتحه الرئيس عبدالفتاح السيسى، مساء أمس بشرم الشيخ، فى حضور واسع من رؤساء أفارقة ومدعوين من قارات العالم، وشباب صاحب تجارب ملهمة وثرية.
بدأ قبل ذلك فى فعاليات وتفاصيل كاشفة عن الاهتمام والجدية، وعدم الركون إلى روتين أو تكرار، هناك تجمع واسع لشباب من مصر، بعضهم يشارك للمرة الأولى من خلال تسجيل بالموقع، وتنوع من شباب أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية واللاتينية، وهذا التنوع تعكسه المظاهر من خلال ملابس الوفود وطريقتها فى التعبير عن نفسه، بما يجعل المنتدى عالميا بالفعل متنوعا قادرا على تطوير رسالته بشكل سنوى ليمثل إضافة لما قبله، وقاعدة لما بعده فى تسلسل يضاعف من الفائدة، وتطورا ناضجا فى التعبير عن ثقافات وحوارات.
ولم تتوقف فعاليات المنتدى على الجلسات والأحداث التى يشارك فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى، لكن تسبقها ورش عمل تمثل خيارا مهما فى التفاعل مع التكنولوجيا وأسئلة وقضايا العصر المطروحة فى مصر وفى العالم، حيث المشتركات التى تمثل انعكاسا للتحولات العالمية والأفكار التى تتمثل فى أسئلة اجتماعية وثقافية.
فى الليلة السابقة لافتتاح المنتدى وبعد عدة ورش ناقش فيها الشباب أفكارا مطروحة بالفعل وتمثل برنامج عمل، مثل التقنية والذكاء الاصطناعى والاتحاد من أجل المتوسط، والأمن الغذائى والاقتصاد وبدء الأعمال، بالنسبة للشباب الطامح لأن يخرج للعالم ويعبر إلى المستقبل ضمن سياقات حديثة.
كان افتتاح مسرح شباب العالم يحمل جرعات روحية من الفن والثقافة، مع تأكيد على عالمية المنتدى، بوصفه حدثا يتوجه إلى الداخل، وأيضا يمد اليد والقلب إلى العالم، إلى أفريقيا، وأوروبا وأمريكا وآسيا، ظهر ذلك فى افتتاح مسرح شباب العالم فى عامه الثانى، كان افتتاحا مبهرا بالفعل.
فقد بدا من علامات امتداد الثقافة والفن أن يتفاعل الحضور مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم، حيث تم استدعاؤها فى غناء حى عن طريق تقنية الهيلوجرام افتراضيا غنت أم كلثوم أغنيتها «انت عمرى» مع فرقة عزف فنية حية امتزج الفن بقوته وتأثيره مع تقنيات العصر لتتجسد أم كلثوم فى صدمة معاصرة للحضور. «أم كلثوم» تشدو أغنية «انت عمرى» وفيلم تسجيلى عن كوكب الشرق.. ضمن شعار «فنون.. إحياء الإنسانية»، فى حضور الرئيس وقرينته.
وبدأت الاحتفالية بأغنية للفنانة المصرية «رولا زكى»، التى تغنى بـ14 لغة، واشتهرت بعملها النسخ العربية لأشهر الأغانى العالمية، ولقبت بصوت الحب والسلام، ثم معايشة لحفل غنائى لسيدة الغناء العربى الراحلة «كوكب الشرق أم كلثوم»، وعرض لفيلم تسجيلى عن كوكب الشرق، تناول حياتها وأهم ما قدمته من أغانٍ، وعرض «هيلوجرام»، حيث تظهر الست أم كلثوم بكل بهائها وسطوتها وحضورها وأصالة فنها.
وشهد عرض الهيلوجرام تفاعلا كبيرا من الحضور سواء الشباب أو الأجيال الأكبر سنا اتفقت صيحات الإعجاب من الحضور الأفارقة والأجانب، فى تأكيد أن الفن العظيم باقٍ وخالد مهما مرت العصور وعابر للثقافات والعصور.
كان الإلهام عنوانا للمشاركين على كافة الأصعدة، كانت فكرة انتقاء نماذج ملهمة ذات تجارب مدهشة وقادرة على الإبهار، حيث قدم الفنان الإيطالى فاتمير مورا، تجربة للرسم بالرمال، من خلال تقديم عرض مصر ملتقى الحضارات، «الفرعونى والرومانى وأفريقى أورومتوسطى، وإغريقى، وقبطى، وإسلامى، وعربى»، وبالفعل بدا الفنان ملهما جدا لفكرة قد تبدو عادية، لكنها عبرت عن إبداع حقيقى وتطرح أسئلة من نوعية أن الرسم يتم أمام الكاميرا، بحيث يكتب الفنان ويرسم بسرعة وإتقان، ليقدم صورا تتحول إلى صور أخرى، وكلمات ترسم وجوها، وتتحول الوجوه إلى وجوه وأشكال أخرى، فن توفر له التكنولوجيا حياة موازية تخرجه من الافتراض إلى اللعب، ثم الفن.
بعدها قدم الثنائى «ويلى وفرونيكا» أغنية، ثم الفرقة المصرية «حورس باند» عرضا موسيقيا باستخدام الفلوت والعود، وتلاها عرض للفنانة ماريسا هاماموتو، وبيوتر الذى يعانى من عجز فى قدمه، لكنه تعلم الرقص وهو على الكرسى المتحرك، حيث أبدع الاثنان فى استخدام الرقص كوسيلة للإدماج خاصة للأشخاص الذين عانوا من إعاقة.
الثنائى ماريسا وبيوتر، الراقصان اللذان قهرا الإعاقة بالإبداع، ماريسا تعرضت لحادث أبعدها عن الرقص وأخبرها الأطباء أنها لن تتحرك، لكنها بالرقص تغلبت على المشكلة واستطاعت التعافى والعودة للرقص من جديد، وبيوتر الذى قدر عليه أن يكون على كرسى ذى عجلات لعجز فى ساقيه، آمن بنفسه وأحلامه، ماريسا خصصت حياتها لتعليم الرقص لذوى الاحتياجات الخاصة من المصابين بشلل أو المقعدين، وبالفعل نجحت فى أن تستعيد معهم الأحلام، قدمت ماريسا وبيوترعرضا كان الكرسى يطير فى رقصة مدهشة ثير البكاء مع البهجة والدهشة، فى تجربة تمثل إلهاما لكل من يريد الانتصار على عجزه أو مشكلات فى جسده.
مسرح شباب العالم مستمر فى تقديم عروض متنوعة لشباب العالم، وهى تجربة تستحق الاهتمام والتعميم، لأنها تصلح لتكون إضافة لعمل الثقافة الشعبية والجماهيرية التى تحتاجها مصر، ويمكن أن تتواصل الفعاليات طوال العام، لتكون نواة لاكتشاف وتقديم المواهب والأفكار الملهمة.
يشهد المسرح مجموعة من العروض المسرحية الموسيقية والكوميدية، فى ظل مشاركة عدد كبير من الشباب، من تونس ومصر ولبنان ودول العالم، حيث لا ينفصل الفن والثقافة عن عناوين المنتدى، التى تحمل هذا العام مناقشة ثرية حول قضايا الأمن الغذائى، والبيئة والمناخ، وسلسلة الكتل (Block-Chain) والذكاء الاصطناعى، وتمكين المرأة، والفن والسينما ومحاكاة للاتحاد من أجل دول المتوسط.
وداخل هذا الالهام المتوقد جاءت تجربة المخرج المبدع خالد جلال فى مسرحية المحاكمة، الذى قدم عرضا بسيطا معقدا يحمل رسائل للدفاع عن الضعفاء وعن الأطفال وأصحاب الاحتياجات، ويدين بشكل فنى الاستغلال والإرهاب والأفكار التى تتحول إلى أدوات قتل وتجنيد للأبرياء، عرض شارك فيه فنانون من 18 دولة ينطقون بلغاتهم المختلفة، لكنهم يقدمون عرضا تفرض فيه لغة الإنسانية نفسها على حواجز اللغة، متجاوزا المباشرة فى تناول أفكاره.
وفى الصفوف الأولى للمنتدى، يجلس شباب صغار السن لكل منهم تجربة إبداع وحلم تم انتقاؤهم ليكونوا رسائل فى الإبداع ملهمة وقادرة على صنع الدهشة، حيث يتجاوز الطفل الأسترالى يوما سوريانتو مع فنانة تنتصر بالفن على سجن المرض والعجز، و سوريانتو يتحدث فى جلسة الذكاء الاصطناعى 13 عامًا مازال طالبًا بمدرسته «الإعدادية» بأستراليا، يمتلك موقعًا إلكترونيًا لإنجازاته فى مجال تكنولوجيا المعلومات والبرمجة.ونجح فى ابتكار تطبيقات وبرامج موجهة للأطفال عن الطقس والبيئة واقتراح الملابس المناسبة ويستخدم الكاميرا لتطوير أشكال هندسية من البيئة المحيطة ويقدم فيها للأطفال والشباب دروسًا عن البرمجة والتقنيات التكنولوجية، ويرى أن المعرفة ليست حكرًا عليه.
وفى المنتدى خمسة من شباب أفريقيا لازوبى وجونسو من الكونغو، سورو من كوديفوار، تيلا من السنغال، وميلان من تشاد، يشاركون فى المنتدى لأول مرة، وتقدموا للحضور عبر الموقع الإلكترونى للمنتدى، بعد أن شاهدوه فى نسختيه السابقتين، كل منهم يحكى عن إعجابه وحرصه على المشاركة، كل منهم التقط رسائل جيله وقارته والرغبة فى الحوار المشترك والتقارب والإبداع.. تيلا الإيفوارية تقدمت للحضور عبر الموقع الإلكترونى للمنتدى، وتحمل الكثير من الأفكار والموضوعات التى ستشارك بها فى ورش وجلسات المنتدى، وميلان الشاب التشادى الذى يشير إلى التنوع والثراء فى جدول الفعاليات.
وهؤلاء مع صوفيا الروبوت بملامح بشرية التى تشارك فى المنتدى وتقول: «انتظروا مشاركتى بمنتدى شباب العالم فى شرم الشيخ بسيناء الجميلة والمشمسة، إننى متحمسة للغاية لمقابلتكم جميعًا»... صوفيا روبوت من صناعة شركة «هانسون روبوتيكس» بهونج كونج، وهى الروبوت الأكثر تطورًا نتاج الذكاء الاصطناعى، والفن، مصنوعة من السليكون، ويمكن لها محاكاة مجموعة كاملة من تعبيرات الوجه، وتتبع الوجوه والتعرف عليها، وإجراء محادثات مع البشر، تم تشغيلها فى إبريل 2015، وزارت السعودية بعد عامين وحصلت على جنسية المملكة.
من مصر تشارك الشابة ياسمينا صالح المُعيدة فى الجامعة الألمانية بالقاهرة، تدرس مادة تصميم جرافيك، وشاركت فى تصميم الهوية البصرية لمدينة شرم الشيخ بعد نجاح الفكرة فى الأقصر.
وبجانب الشباب، هناك شخصيات ملهمة على المستوى العالمى مثل الدكتور هانى عازر، خبير الأنفاق العالمى وعضو المجلس الاستشارى الرئاسى، الذى يشارك فى النسخة الثالثة من منتدى شباب العالم، ولديه مشاركة فى تحديث وتنمية مصر، وأفكار تفوق بها فى الخارج وعاد ليقدم إلى مصر خبراته ولديه دائما آراء إيجابية وطموحات فى أن تتسع دوائر المشاركة وتقديم الأكثر كفاءة ويشير إلى أفكار عن أهمية التعليم الفنى، ويرى أن مصر تتحرك بإرادة وأحلام واسعة فى التقدم، ولهذا فقد كانت لديه رغبة فى المشاركة.
نحن أمام تجربة تبحث عن النماذج الملهمة، وتضاعف من الحوار والتفاعل والاختلاط، مع تجارب فنية وإبداعية، تقنية، واقتصادية، تصوغ عالما صغيرا، ونواة يمكن أن تصبح خميرة تعيد بناء النماذج وتسير إلى الأمام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة