هل جربت من قبل أن تسألك زوجتك أو طفلك: ما الذى قيل اليوم فى خطبة الجمعة؟ فلا تجد شيئا تقوله لهم، فتقول في جملة واحدة: لا جديد.
فى مؤتمر أدباء مصر، الذى انتهت فعالياته منذ أيام قليلة، فى مدينة بور سعيد، وفى ندوة بعنوان "الحراك الثقافى وسؤال الهوية والتنوير"، قال أحد المشاركين: "بصفتى أزهريًا أقول: يطالبون الأزهر بما يسمى بتجديد الخطاب، ليس لدى الأزهر خطاب جديد، خطابه جزء منه، ولن نغيره".. كان الرجل يتحدث بفخر، كأن الذين يطالبون بتجديد الخطاب الديني يطلبون شيئًا غريبًا، وكأنهم يريدون أن يسيئوا للأزهر إذا طلبوا منه "خطابًا جديدًا".
وفى تأمل للكتب التى يعتمد عليها خطباء المساجد، فى دروسهم وخطبهم الأسبوعية وفى تقرير نشرناه فى اليوم السابع بعنوان (10 كتب ينقل منها أئمة المساجد خطب الجمعة.. "الخطب والمواعظ" لـ ابن سلام عمره 1200 سنة.. وشيوخ السلفية يجمعون دروسهم ويروجون لها على المنابر.. ووزارة الأوقاف تصدر موسوعة الخطب العصرية.. والشيخ كشك عرض مستمر" تبين لنا أن خطباء المساجد لا يملكون جديدًا ليقولوه، إنهم يكررون أفكارًا يطاردها الموت.
لماذا أشعر بالخطر؟
تطالب الدولة مؤسسات وأفراد بخطاب ديني وثقافي جديد، لكن هذه الدعوات لم نر أثرًا حقيقيًا لها على أرض الواقع، وذلك لأن البعض يخلط خاصة فى الجانب الدينى بين النص والفكر المتمثل فى التفسير والفقه، وهنا لا أتحدث عن الناس البسطاء والعامة، بل أقصد المتخصصين، بعضهم يظن أن تجديد الخطاب الدينى معناه تغيير النصوص، ولا يفهم أن المقصود هو التفسير والتأويل الذى يتغير طوال الوقت بتغير السياق.
وجزء مهم من تجديد الخطاب الدينى يكمن فى خطبة الجمعة، لكننا وبكل أسف نجد أن نص الخطبة منقول من كتب سابقة أى ليس لدى الخطيب ما يضيفه، إنه يعيد على أسماعنا ما سمعناه بالفعل، بالطريقة نفسها، بالتفسير ذاته، لا تأويل ولا إشارات جديدة.
وهنا وجبت الإشارة إلى أن وزارة الأوقاف متورطة فى هذا الأمر، فهى بإصرارها على إصدار "موسوعة الخطب العصرية" بأجزائها التى وصلت إلى سبعة حتى الآن، فإن ذلك يعنى تقديسًا لهذه الكتب بعدما طبعت وصارت موجودة فى كتب يمكن اقتنائها فى المكتبات العامة والخاصة، وبعد سنوات قليلة سوف يعود شيوخ المساجد إليها لينقلوا منها ويقرأوها علينا وعلى أبنائنا، بينما يكون الزمان غير الزمان، ولا تكون هذه الكتب "عصرية" بالمرة.
ولو تأملنا الكتب التى نشرت فى التقرير سنخرج بعدة نتائج مهمة وخطيرة فى الوقت نفسه:
النتيجة الأولى
، هى "موت الابتكار" فكيف لرجل دين وقف أمام الناس يعيد كلامًا مرت عليه السنوات، أن يملك أي ابتكار أو خيال، هو حتما سيهزم أمام أي فكرة جديدة لأنه ليس لديه طريقة للخروج من أزمته، هو حبيس الماضي.
النتيجة الثانية
، التقليد، فإمام المسجد بنقله للكلام القديم دون إضافة أو معاصرة قد صنع من نفسه "مسخا" وفقد أصالته، التى هى جزء مهم من شخصية القيادى، وإمام المسجد شخصية قيادية بالفعل، تخيل أنك تتحكم فى أسماع المئات أو الآلاف لمدة ساعة تقريبًا، لكن هذا القيادي يضيع فرصته عندما يذهب بكامل إرادته لتبنى "شخصية غيره" فى الأفكار أو حتى فى تقليد الأداء، وعندما يفطن المستمعون إلى ذلك، حتما سينصرفون عنه.
النتيجة الثالثة
، صناعة العنف، فكثير من الكتب التى يتم النقل عنها دافعة إلى العنف ومتشددة، لأن قائليها كانت لهم سياقاتهم الخاصة، بعضهم "ذو طبيعة عدائية" مثل الشيخ عبد الحميد كشك، كانت خطبه في معظمها قائمة على المقارنات، وبالتالى يجب التنبه إلى الجمل الخطيرة التى تلقى على أسماع الناس.
ما الذى أدى إليه نقل الخطب من الكتب القديمة؟
كان من الطبيعي أن ينقسم المصلون لخطبة الجمعة إلى ثلاثة أقسام،
الأول
يمكن أن نطلق عليه (العائش فى التاريخ) وهو الذى يستمع للخطبة لأن جزءًا من عقيدته هو التنبه إلى الخطبة وقائلها، لكنه لا يستفيد شيئًا، لأن الكلام قد قيل من قبل، هو يعلمه ويلتزم به أو يحاول، هذا الإنسان تأخذه الخطبة إلى "التاريخ" يعود بالزمن إلى الوراء، وعندما تنتهى الخطبة ويخرج إلى الشارع يحمد الله ويذهب إلى بيته.أما
النوع الثانى
من حاضري الخطبة يمكن أن نطلق عليه (المنصرف الذهن) وهم الذين ينصرف تركيزهم تامًا أثناء الخطبة، فمنذ يبدأ الخطيب الكلام يعرفون ما سيقوله، فينشغلون بأمور حياتهم، حتى يتحرك من بجانبهم للصلاة فيقومون إليها.أما
النوع الثالث
(المكتفى بركعتى الظهر) وهو الأخطر فى الموضوع، فبعض المصلين يذهبون إلى الصلاة فقط، ولا يشهدون سوى "الدعاء الأخير" ويهملون الخطبة تماما.
كيف نخرج من ذلك؟
على وزارة الأوقاف ألا تتعامل مع كلامي بحدة أو بعدائية، عليهم أن يلتفتوا إلى الجانب الإيجابي فيه وهو الدعوة لتجديد خطاب ديني حقيقى، يلمسه الناس فى خطبة الجمعة، لأنها أول التعامل المباشر بين الناس والأفكار الدينة الموجهة.
كما أود الإشارة إلى أن الكتب القديمة، ليست سيئة فى مجملها، لكنها قد تكون غير مناسبة للعصر أو للحالة الثقافية والمجتمعية لمصر.
ومن وجهة نظري، فإن أئمة المساجد في حاجة "حقيقية" إلى الإيمان بالفصل بين النص وما نتج عنه من أفكار، فالنص مقدس لكن الأفكار قابلة للأخذ والرد، وعلى وزارة الأوقاف أن تمنحهم مساحة من الخيال وذلك بعدما تدربهم على الاستخدام "التنويرى" للمصادر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة