أعرف تماما أنها إنسان آلى، أعرف أنها خالية من المشاعر، أعرف أنها لا تشعر إلا بما سمح لها مبرمجوها بأن تشعر، رأيتهم بعيني وهم يضعون لها وجها على رأس شفاف تتخلله الأسلاك كما نضع الجاكت فوق القميص، رأيت الدوائر الكهربائية في هذا الرأس الصغير وهي تنير وتخفت، ربما دلالة على ضعف بطاريات تشغيلها أو ربما دلالة على استمرار سريانها، رأيتها وهي تسير بصحبة طاقم من الفنيين، ورأيتهم يتحلقون حولها مشكلين بأجسادهم سياجا يمنع عنها تطفل البشر، لكني مع كل هذا لم أستطع منع نفسي من الشعور بالريبة والخوف.
نعم شعرت بالريبة والخوف والحزن أيضا، ففي عينها المصنوعة من السيلكون انكسار وأسى، وفي حركتها الآلية شعور بالضعف وربما المرض، تلك الحركات الآلية استدعت في ذهني مشهد لمريضة لا تقوى على النهوض، ولم تستدع ما بالذاكرة من مشاهد "الإنسان الآلي" في الأفلام العربية والأجنبية، فلماذا وأنا أعرف مكوناتها ومواد صناعتها انتابني هذا الشعور البشري تجاهها؟
الأغرب من هذا التساؤل هو أني لم أستطع منع نفسي من تخيل ردود أفعالها، سألت نفسي: هل تتفرج صوفيا علينا مثلما نتفرج عليها؟ هل تندهش لسلوك البشر تجاهها مثلما نندهش لسلوكها تجاهنا؟ من صنعوها جعلوها أنثى، لأن الأنثى دائما هي الأكثر قدرة على إزاحة الحواجز، والأكثر قدرة على إشاعة الدفء، جعلوا اسمها "صوفيا" هذا الاسم العالمي الذي لا يخطئ أحد في نطقه مهما اختلفت الصوتيات، والذي تستخدمه كل شعوب العالم في كل الأزمان، هذا الاسم اليوناني الأصل والذي يعني "الحكمة" أو "الصفاء" ومنه أتت كلمة "صوفي" وبه تسمت كنيسة "أيا صوفيا" الذي اغتصبها الأتراك وجعلوها مسجدا، وبه تسمت الممثلة العالمية "صوفيا لوين" ومن هذا كله ندرك أن صناع "صوفيا" أرادوا أن يغازلوا ذلك الرصيد العامر لهذا الاسم من تاريخ الشعوب وتاريخ الجمال وتاريخ الفكر أيضا، فهل أردوا أيضا أن يبعثوا إلينا بتلك النظرة المنكسرة رسالة ما؟
تكلمت صوفيا اليوم بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقد تكلمت في السابق أمام العديد من قادة العالم، كما جلست مع الممثل العالمي ويل سميث في فقرة دعائية حاول فيها الممثل العظيم "ويل" أن يقبلها في مشهد تمثيلي غير متقن، فردت عليه بأنه في قائمة أصدقائها وهو ما يعني أنها أحرجته وأنها لا تكن له أية مشاعر من أي نوع، فتتميز "صوفيا" بالطلاقة النسبية مقارنة بمثيلاتها من الروبوتات، لكننا نعرف تماما أن إجاباتها معلبة، وأن المواقف التي توضع فيها اليوم سبق تخيلها من قبل صناعها ثم غذوها بإجابات نموذجية تبهر السامعين، فهي ليست إنسان على الإطلاق لكنها قادرة مع ذلك على أن تثير المشاعر المتناقضة في الصدور.
هل قلت إيضا أنني شعرت بالارتباك؟ نعم لقد شعرت بهذا الشعور غير المحبب، وحالي هنا يختلف كثيرا عن حال المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر ووصفها في كتبه، والذي شعر بذات الشعور حينما أجرى علماء الحملة الفرنسية أمامه تجربة علمية فوصفها قائلا "ولهم فيها أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج غريبة لا تسعها عقول أمثالنا" ولست أيضا مثل أحمد عبد المعطي حجازي حينما احتلته الدهشة عند مجيئة الأول إلى القاهرة فخلد هذا الارتباك في قصيدته الشهيرة "مدينة بلا قلب" قائلا:
والناسُ يمضون سِراعا
لا يَحْفلون
أشباحهم تمضي تباعا
لا ينظرونْ
حتى إذا مرٌ الترامْ
بين الزحامْ
لا يفزعونْ
لكنني أخشي الترامْ
كلّ غريبٍ ههنا يخشي الترام!
فالجبرتي كان جاهلا بتجارب علماء الحملة الفرنسية فاندهش، وعبد المعطي حجازي كان قرويا هادئا لا يرى في بلدته بمحافظة المنوفية شيئا غير بشري يمشي في الشوارع سوى الحمير والجاموس، فطبيعي أن يصعق حينما يرى الترام متخيلا أنه حيوان أسطوري من الحديد الغليظ، أما في حالتي مع صوفيا فالأمر مختلف، فقد رأيتها مثلما يراها الأمريكي والألماني والصيني والسنغافوري، وتلك الحالة من الدهشة تنتابني الآن ربما هي ذات الدهشة التي انتابت عالم الفيزياء الأكثر شهرة ستيفن هوكينج الذي كان يخاف من الروبوتات متوقعا أن تقوم بثورة على البشر في يوم ما، أو ربما هي تجسيد لعدائية مضمرة في داخلي تجاه هذا الكائن الغريب، فالناس أعداء ما جهلوا، وشعورك أن هذا الكائن الذي ينظر إليك بعين منكسرة الآن هو نتاج عمل مئات العلماء الذين طورا عشرات البرامج والخوارزميات في سنوات عديدة داخل معامل بعيدة لترى أنت الآن نتاج مجهودهم يجوب العالم ويحدثك مثلما يحدثك سائح في خان الخليلي، يجعلك تغرق في الأسئلة، عن شكل المستقبل ودورك فيه وإمكانيات هذا الكائن الذي رأيته في فيلم ويل سميث الشهير "أي روبوت" وهو يغضب منه حينما يطلق عليه وصف "كائن".
وضعنا "منتدى شباب العالم" أمام المستقبل وجها لوجه، وأظن أن هذه هي الميزة الأساسية التي تميز هذا المنتدى عن غيره، فهو ينطلق بروح الشباب، وبمنطق الشباب، وبهموم الشباب، وفي الحقيقة برغم أزعم أني من المهتمين بمستقبل الذكاء الصناعي في العالم، متابعا للأبحاث التي تجريها العديد من الشركات العالمية في هذا الشأن لكن الرؤية تختلف كثيرا عن القراءة، والمواجهة تختلف كثيرا التخيل، فليس من رأى كمن سمع، وأظن أن تلك الدهشة التي انتابتني ستواجه كل من يواجه صوفيا أو أخوتها حتى تصبح أكثر اعتيادا ونصبح نحن أكثر "آلية"
وضعتني رؤية "صوفيا" في تلك المقابلة المربكة، في تلك المفارقة الصارخة، ففي الوقت الذي يتحول فيه الإنسان إلى "الآلية" تتحول فيه الآلة إلى "الأنسنة" فالإنسان الآن غادر كثيرا من إنسانيته، أصبح رقما في غالبية الأوقات، اشتغل بالحساب في غالبية أنشطته وترك الطبيعة، صار كبت فطرته الإنسانية وسذاجته الآدمية أكبر إنجازاته، لكنه في الوقت ذاته يريد أن يأنسن الآلة، وأن يطلق على "روبوت" اسما بشريا، مطلقا العنان لتصورات مستقبلية تضع "الآلة" محل العامل والصديق والزوجة والحبيب، وهي حالة نرى بعضا منها الآن في انجذاب البشر لـ"مواقع" التواصل الاجتماعي، في حين أن التواصل الاجتماعي أقرب وأكثر دفئا، فمن منا لم يستهجن سلوك صديق ترك أصحابه في جلسة ودودة ليتحدث إلى أصحاب آخرين عبر الفيس بوك؟ ومن منا لم يترك جلسة عائلية دافئة ليتحدث عبر برودة الواتس أب إلى إناس أكثر برودة؟ وما الذي يريده البشر من هذا التشتت؟ وما الذي سيقودنا إليه هذا الطمع في أن نتحدث إلى كل الناس ونغرق في كل التفاصيل ونعرف كل المستجدات ونعيش كل التجارب في حيز مكاني وزماني مقدور سلفا؟