أمر مؤسف ومثير للحزن والشفقة والتعاطف، أن نجد شابا أو شابة فى مقتبل المستقبل يفكرون فى الانتحار، وإنهاء الحياة، وبعد أسابيع قليلة من انتحار طالبة صيدلة بإلقاء نفسها فى النيل جاء حادث انتحار خريج الهندسة، ولا يمر يوم من دون حادث انتحار تحت عجلات المترو أو تناول سم أو القفز فى النيل أو غيرها من الطرق، وبعض الحالات تعود لمرض نفسى أو ضغوط نفسية، لأن قرار إنهاء الحياة صعب بالفعل، ووارد أن يصل إليه أى شخص، وقبل عامين انتشرت حالات انتحار حول العالم من مراهقين لعبوا لعبة الحوت الأزرق، أو ألعاب أونلاين تنتهى بانتحار أو قتل.
وهناك زوايا متعددة يمكن منها النظر لحوادث الانتحار، وأساسها النفسى، الذى لا يتشابه من حالة لأخرى، خاصة إذا علمنا أن هناك 800 ألف حالة انتحار فى العالم سنويا، تختلف من مجتمع وفرة إلى مجتمع متوسط إلى مجتمع احتياج، وفيما يتعلق بمجتمعنا، هناك يوميا حالة انتحار على الأقل، ومن يراجع صفحات الحوادث يمكنه اكتشاف ذلك، ولكل منها سبب، قد يتشابه أو يختلف، وهذا ما قد يحدده خبراء النفس والاجتماع ضمن تحولات اجتماعية كثيرة بعضها أسباب حديثة.
حادث انتحار خريج الهندسة من فوق برج القاهرة، ضاعف من حجم الصدمة نشر فيديو الانتحار بعد تسريبه من كاميرا البرج، أو من غيرها، وبدا الخطأ من تسريب فيديو الانتحار، وهل هو من داخل كاميرات البرج، أم من مصدر آخر، وهو موضوع تحقيق قرره النائب العام.
وبعيدا أن التحقيقات الرسمية فإننا بالفعل فى عصر أصبح فيه التصوير متاحا والنشر على مواقع التواصل متاح بلا أى مسؤولية، ولهذا سارع مئات من مستخدمى أدوات التواصل أعادوا نشر و«تشيير» فيديو انتحار الشاب، وهم يمثلون أنهم يذرفون الدموع أو يمارسون الحزن وبالمرة يقدمون تحليلا اجتماعيا نفسيا سياسيا للحادث ويستنتجون النتائج، وطبعا كل من أعاد تشيير الفيديو لم يضع فى أعتباره أن يرتكب جريمة ويضاعف من آلام أهل الراحل، ومن دون مراعاة لمشاعر أهل الشاب أو حتى للبشر، خاصة أن المبالغة فى نشر هذه الفيديوهات لا ينتهى بأى نوع من العبرة، بل ربما يضاعف من مشاعر الاكتئاب والصدمة لجمهور فيه تنوع من النفسيات التى يمكن لبعضها أن تتأثر.
ومن بين من أعادوا نشر فيديو انتحار الشاب صحفيين وإعلاميين، يفترض أنهم يعرفون قواعد النشر، أو يدركون أن النشر قد يلمعهم لساعات، ولن يعود عليهم بربح، وهو شعور مرضى بالتحقق الكاذب لدى قطاعات من رواد المواقع الاجتماعية وهى ظواهر كانت موجودة بالمجتمع وأظهرتها أدوات النشر والتواصل الاجتماعى، وغالبا ما يكون الهدف من إعادة نشر الفيديو هو ممارسة شعور العارف ببواطن الأشياء والتفاخر، حتى ولو بعادة نشر مشهد صعب وصادم ومحزن.
لا يمكن تعميم الاتهام من نشروا الفيديو، أو من أعادوا تشييره، لكن بعضهم بالفعل مريض نفسى ضمن ملايين المرضى بالمجتمع ممن لا يعترفون بمرضهم، وتتملكهم رغبة فى الظهور حتى ولو على حساب مصائب الآخرين، ويمثلون حالة الحزن والصدمة، بينما هم يمارسون المظهرية الافتراضية، تماما مثل قطعان تعيد نشر بوستات عنيفة أو فيديوهات صادمة أو حتى بوستات ومعلومات مضروبة.
النوع الآخر هو النوع الخبير العميق التفاه المتعدد الاتجاهات، ومع أى واقعة أو خبر يتلبس روح العلامة الفهامة، ويبدأ فى تحليل ذاتى إشعاعى، يصدر حكما نهائيا تجد من يعلن بكل وضوح «مات كافر» عن المنتحر، وهو حكم مريح، يتماشى مع ثقافة نصية لا تحتاج إلى تفكير كثير، ويرد عليه آخر بأن الأمر ليس بهذه البساطة، ويدخل ثالث ليقدم تحليلا نفسانيا أو اجتماعيا، ورابع عن المجتمع و«انسداد الافاق المظلمة».
كالعادة تحول حادث انتحار المهندس الشاب إلى مناسبة ليتحدث كل واحد عن نفسه، ويقدم عرضا نفسانيا سياسيا اجتماعيا، لا يهدف إلى فهم ما جرى، ولا فهم الموضوع، لكن الاندماج فى مباراة يستعرض كل مستخدم أسلحته، لا فرق هنا بين حادث أو سياسة أو اقتصاد، وحتى وهم يظهرون التعاطف ويهاجمون الآخرين، يريدون الإعلان عن أنفسهم على حساب المنتحر، والهدف فى النهاية هو الحصول على لايكات أو دمعات افتراضية أو شعور بالصدمة «انتحار شير لايك ومصيبة».