قبل أن تمر 24 ساعة على مناحة خبراء العلوم النفسية والانتحارية، تراجعت الحالة وتوقف المحللون والمحرمون عن تناول الموضوع، بالرغم من أنهم كانوا منفعلين بالموضوع وبدا أنهم فى سبيلهم لتدشين حملة من أجل بحث أعماق قضية الانتحار. لكن كالعادة توقفوا وانصرفوا كأن انتحارًا لم يكن، ولا لوم على أحد من هؤلاء الخبراء، لكن الأمر كاشف لظواهر فرضها عالم الاتصال والتواصل الذى يخلق زحامًا افتراضيًا، لا علاقة له بالواقع، ولا يمكن القياس على ما يطرحه بعض المستخدمين ويكون منقولًا أو يحمل وجهة نظر ضيقة، ولا على ادعاء كل المعلقين أنهم متعاطفون مع الضحية، بينما هم ينشرون فيدو انتحاره وكأنهم يعاقبونه وهم يزعمون أنهم يتعاطفون معه ويترحمون عليه.
اللافت أن فرق التعاطف الافتراضى توقفت خلال ساعات من إفراغ كل أنواع الحزن على المهندس المنتحر، وأفرط السادة «المحزونين» فى نشر وإعادة نشر فيديو الانتحار من دون مراعاة لمشاعر أسرة الشاب أو مشاعر المواطنين ممن تأذوا من إعادة نشر الفيديو. وكان النشر فى حد ذاته نوعًا من التشفى حتى لو كان هؤلاء يغلفونه بغلاف من التعاطف.
واللافت للنظر أن من نشروا الفيديو أو علقوا عليه، كانوا يفعلون ذلك فى ثوب من الطيبة والعطف والحزن الظاهر، ومن مناطق مثالية، بينما فى النهاية كل المستخدمين والمواطنين هم بشر وليسوا ملائكة ولا شياطين، ويفترض أن يتعاملوا مع الانتحار باعتباره أمرًا إنسانيًا يتطلب النظر من زوايا متعددة، وأن كل حالة لها ظروفها ومعطياتها. خلال النشر سارع كل واحد لإنتاج تحليل نفسى اجتماعى إنسانى، وكانت الآراء مختلفة ولاعلاقة لها بالموضوع، ولكن كل واحد تحدث عن نفسه ساعيًا لجمع الأضواء والأفكار. انصرف السادة السوشياليون إلى نميمة أخرى بنفس السرعة، واختفت تقريبًا قضية الشاب المنتحر. لتحل مكانها نميمة أخرى متنوعة. نحن هنا نضرب مثلا بقضية الانتحار، لنحاول فهم طبيعة القضايا التى تفرض نفسها وتحظى بالاهتمام، ولو كان السادة الخبراء جادين لاستمروا فى مناقشة الموضوع وبحثه، وغالبًا كل منهم كان لديه رغبة فى أن يكتب أكثر التعليقات عمقا، وأشدها إثارة للحزن والفزع، ثم ينتقل لموضوع آخر بنفس الحماس.
حتى أصحاب الآراء العلمية وخبراء علم النفس يتراجعون لصالح أصحاب اللايكات والفلورز الأكثر، لدرجة أن طبيبا نفسيا كتب يطالب بدراسة الظاهرة من زوايا مختلفة، ومقارنتها بما يجرى فى العالم، وعدم التعامل معها بسطحية لكن رأيه لم يجد صدى ولا تفاعلا كبيرا مثلما كان التفاعل بإعادة تشيير فيديو الانتحار. فقد تراجع المختصون أمام وابل من خبراء « كل حاجة» ممن أعلنوا أنفسهم خبراء انتحار ومحللى نفوس عميقة، تمامًا مثلما يفعلون مع قضايا «الطاقة النووية، والغناء العربى، وجيولوجيا سطح القمر وعلم العفاريت، وجلب الحبيب»، الآراء الجاهزة والرؤية المسبقة التى تصنع ضجة ولا تفيد فى فهم أو غيره.
وما يجرى فى موضوع الانتحار، يتكرر مع كل قضية أو موضوع يشعل السوشيال ميديا ساعات ثم يختفى كأن لم يكن، وحتى موضوع الانتحار فإن أغلب من علقوا وتصدروا عملية نشر الفيديو والحكم على الشاب، لم يقدموا فكرة أو حوارا أو معلومة، فقط كل طرف ينقل من مصدر واحد ومن زاوية واحدة ليبرهن على وجهة نظره الجاهزة. ونحن هنا لا ندين هؤلاء لكن نحاول تفهم عالم مزدحم متشابك معقد يخلق نميمته ويفرض مناقشتها لكن الأغلبية لا تهدف للمعرفة والتعاطف بقدر ما تهدف للاستعراض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة