أصدر مرصد الازهر تقريرًا جديدا بعنوان "أزمة التأهيل اللغوى والثقافى للأئمة فى ألمانيا ودور الأزهر"، قال فيه: "يتجاوز عدد المسلمين فى ألمانيا 5 ملايين مسلم، ويمثلون -بلا شك- جزءًا كبيرًا وفاعلا فى المجتمع الألمانى، وتبلغ نسبة المسلمين فى ألمانيا 70% من عدد المسلمين إجمالا، إلى جانب فرق وطوائف أخرى، ويبلغ عدد المساجد الرسمية المسجلة فى ألمانيا قرابة 2000 مسجد، يعمل بها حوالى 2500 إمام.
وتابع المرصد فى تقريره الذى حصل اليوم السابع على نسخة منه لا شك أن هذه المساجد تلعب دورًا رئيسًا فى حياة المسلمين هناك؛ فهى جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية، كما أنها تشكل جزءًا كبيرًا من الحياة الوجدانية والثقافية للمسلمين، حيث تعتبر المساجد فى ألمانيا بمثابة ملتقيات اجتماعية، يجتمع فيها كثير من المسلمين، ليس فقط فى يوم الجمعة، بل بعد أوقات العمل وفى أيام العطلات أيضًا، كما تنظم المساجد كثيرًا من الأنشطة الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية.
ولأئمة المساجد دور كبير فى هذا الصدد، علاوةً على قيامهم بالإمامة وأداء خطبة الجمعة وإلقاء الدروس الدينية. ولأهمية دور الأئمة فى المجتمع الألمانى، يتكرر الحديث حول هذا الموضوع من حين لآخر، وتُثار بشأنهم العديد من القضايا.
ولعل المسألة الأكثر إثارة للجدل، هى أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأئمة من غير الناطقين بالألمانية، فهم إما سافروا نتيجة لاتفاقيات بعض الدول الإسلامية مع الحكومة الألمانية، أو نتيجة للتواصل الفردى مع إدارة المساجد، والتى ترسل للإمام تأشيرة سياحية ليقوم بعدها بالذهاب إلى ألمانيا وتسوية أوضاعه فيما بعد وفقًا للقانون.
وأغلب هؤلاء الأئمة لا يتقنون اللغة الألمانية، ولذا فقد طرحت بعض التقارير الصحفية والأمنية تساؤلًا منطقيًّا: كيف لهؤلاء الأئمة الذين يأتون من الخارج ولا يملكون دراية كافية باللغة والحضارة الألمانية أن يساهموا بشكل فاعل فى إدماج المسلمين فى المجتمع الألماني؟ وعلى الرغم من اهتمام الحكومة الألمانية بإنشاء معاهد وكليات بالجامعات الرسمية لتدريس الدين الإسلامى وتخريج معلمين، وأئمة للمساجد، فإن هذه المعاهد والكليات لم تؤتِ ثمارها بعد؛ فقد ذكر تقرير لمؤسسة "كونراد أديناور" أن هذه المؤسسات لم تنجح فى التنسيق بين الموضوعات الدراسية وسوق العمل، كما أشار التقرير إلى أن خريجى هذه المؤسسات لم ينجحوا فى إظهار كفاءتهم فى الرد على القضايا الفقهية العامة، ومواجهة الصعوبات المؤسسية، كما أن المساجد ليس لديها قدرات مادية لدفع رواتب هؤلاء الخريجين بالشكل الذى يناسبهم، وبما يتوافق مع القانون الألماني.
وبسبب استمرار الأزمة، أعدت الحكومة الألمانية مشروعًا يقترح ضرورة تعلم اللغة الألمانية للأئمة القادمين من خارج ألمانيا قبل السماح لهم بدخول البلاد، الأمر الذى أثار جدلا واسعًا فى الصحف الألمانية مؤخرًا. فقد أوضح "هورست زيهوفر" وزير الداخلية الألمانى فى تصريح صحفى أن هذه المبادرة التى قدمتها وزارته تساهم بشكل كبير فى تحقيق عملية الاندماج، خاصة وأن الأئمة وعلماء الدين يُمثلون مرجعًا للكثير من المهاجرين. غير أن أعضاءً من أحزاب "الخضر" و"البديل من أجل ألمانيا -اليمينى الشعبوى" و"اليسار"، انتقدوا المشروع، حيث أشاروا إلى أن هذا المشروع غير كاف لحل القضية، وكان يتعين على الحكومة الألمانية أن تكرِّس طاقتها فى تدريب جيد للأئمة، بدلًا من إلزامهم بتعلم اللغة وحدهم.
وشارك ممثلو الجمعيات الإسلامية فى هذا النقاش، حيث صرح "أيمن مزيك"، رئيس المجلس المركزى للمسلمين فى ألمانيا، بأن المجلس المركزى للمسلمين بألمانيا يعمل على تحسين مستوى الأئمة، وخاصة فيما يتعلق بإلمامهم باللغة الألمانية وتأهيلهم من الناحية العلمية والثقافية، ويبذل قصارى جهده فى ذلك. مشيرًا إلى أن هذا القرار لا يمكن تطبيقه إلا من خلال التعاون مع الجمعيات الدينية الإسلامية، وأن الأمر يتطلب وضع أُسس حول تطوير منظومة التأهيل للأئمة فى ألمانيا بحيث يكون تأهيلًا ناجحًا، وأضاف أن إلزام رجال الدين الأجانب بتعلم اللغة الألمانية لا يكفى لحل الازمة على المدى البعيد، ما قد يؤدى إلى مواجهة الجمعيات الإسلامية -وحدها- سدَّ العجز المحتمل عند تطبيق هذا القرار.
وعليه فإن تعلم اللغة وإتقانها من أهم وسائل التفاهم والتعامل بين أفراد المجتمع وفى جميع ميادين الحياة، ولذلك كانت اللغة قديمًا وحديثًا الركيزة الأولى فى عملية التفكير، والوسيلة الأساسية للتواصلِ والتفاهم، وبثِّ المشاعر والأحاسيس، ومن خلال تعلم لغةٍ ما يمكن للفرد أن يتعرف على حضارة وثقافة المجتمع الخاص بهذه اللغة ولو بشكل جزئى، كما تمكنه من التواصل مع أفراد المجتمع بشكل سليم، متجنبًا الأمور التى يمكن أن تسبب ما يسمى بالصدام الحضاري.
وفى هذا السياق، أكد المرصد أن الأزهر الشريف كان له السبق فى هذا الأمر، ففى منتصف التسعينيات قام بإنشاء أقسام الدراسات الإسلامية باللغات الأجنبية فى كلية اللغات والترجمة، لتضم بين جنباتها 14 قسمًا لأكثر اللغات الحية والمنتشرة فى العالم، من بينهم قسم الدارسات الإسلامية باللغة الألمانية، والذى يدرس فيه الطالب مواد الفقه والشريعة باللغة الألمانية ليصبح -بعد التخرج- قادرًا على إيصال رسالة الأزهر الوسطية إلى المجتمع الألمانى بكل طبقاته وطوائفه. ويوفد الأزهر الشريف إلى ألمانيا كل عام عشرات الأئمة المتحدثين بالألمانية بطلاقة، لنشر الإسلام الوسطى الذى درسوه فى قلعة العلم ومنارة العلماء، وإيصاله إلى كافة ربوع العالم.
جدير بالذكر أنه فى مارس 2017 ذكرت جريدة "دى فيلت" الألمانية أن الأزهر عرض على رئيس البرلمان عقد دورات تدريبية للأئمة فى الأزهر، وقد أعرب رئيس البرلمان عن استحسانه لهذا المقترح، مشيرًا إلى أن للأزهر تأثيرا إيجابيا حتى فى داخل ألمانيا، كما ذكرت الجريدة نفسها أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد ناقشت الأمر نفسه مع فضيلة الإمام أثناء لقائها معه.
وعليه قام الأزهر الشريف بتأسيس أكاديمية لتدريب الأئمة، تهدف إلى تأهيل خريجى الكليّات الشرعية والعربية وغيرها من الوعاظ والأئمة والمدرسين وباحثى وأمناء الفتوى داخل مصر وخارجها، لتشكِّل عقولًا قادرة على مسايرة تطورات الأحداث والمجتمعات، وإتقان التعامل مع الوسائل الحديثة والاستفادة منها، ويلتحق بهذه الأكاديمية كثير من الأئمة من كل أنحاء العالم.
وقد أعرب الأزهر الشريف عن استعداده لاستقبال الأئمة من كافة دول العالم لتدريبهم وتأهيلهم وتطوير قدراتهم العملية والثقافية، كما وقَّع الأزهر عدة اتفاقيات مع بعض الدول لتدريب أئمتهم وخطبائهم وفق المنهج الصحيح الذى ينتهجه الأزهر فى تخريج أئمته ودُعاته.