غاب الدولار وأغلقت الصحف.. بهذه العبارة يمكن إيجاز ما تواجهه الصحافة العربية من أزمات مالية طاحنة، أودت بحياة العديد من الإصدارات اللامعة على مدى عقود، فبعدما عانت صاحبة الجلالة من القيود الأمنية وكانت محط ملاحقات قوى الاحتلال فى بلدان العالم العربى، وفى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، تقف الصحافة فى الوقت الحالى أمام تحديات من نوع جديد ليدفع القائمون عليها والمؤمنون بحرية الرأى والتعبير ثمن الأزمات الاقتصادية العالمية، ودور شبكات التواصل الاجتماعى ومحركات البحث الشهيرة فى إتاحة المحتوى الإخبارى دون مقابل، ودون حماية واضحة لحقوق الملكية الفكرية.
ومع تواصل الصحافة تراجعها أمام سطوة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعى، أغلقت صحف أبوابها، وتوقفت أخرى عن إصدار طبعاتها الورقية مكتفية بالإلكترونية.
العدد الأخير من المستقبل اللبنانية
وفى بيروت، واستمرارا للضربات التى تلاحق الصحف الورقية، مع هيمنة التكنولوجيا الرقمية، ودعت صحيفة "المستقبل" اللبنانيّة، قراءها، يوم الخميس، وكتبت نهايتها فى عدد ورقى أخير خال من الأخبار، وملىء بالذكريات وكلمات الوداع.
وبعد أن أصدرت الصحيفة على مدى عشرين عاما، 6585 عدداً ورقيا، قالت إنها واكبت خلالها الهم الإنسانى والوطنى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى والرياضى وغيره، أعلنت أن الانطلاقة الرقمية لها ستتجدد فى 14 من فبراير 2019، وهو يوم اغتيال الحريرى عام 2005.
وكانت إدارة الصحيفة قد أعلنت أوائل يناير، أنّها ستتوقف عن الصدور بداية فبراير، وبررت ذلك فى بيان بالقول أنه "أمام التحولات التى تشهدها الصناعة الصحفية فى لبنان والعالم، والتراجع المتواصل الذى تشهده السوق المحلية فى المبيعات والمداخيل الإعلانية، قررت إدارة جريدة المستقبل وقف إصدار النسخة الورقية من الجريدة بدءاً من 1 فبراير 2019، والتحول إلى جريدة رقمية بالكامل".
وعلى 16 صفحة، نشرت الصحيفة أبرز أغلفتها وصفحاتها الأولى القديمة، وبينها تغطية اغتيال رئيس الوزراء الراحل، رفيق الحريرى، وما تلاه. وعلى صفحتها الأولى، كتبت الصحيفة عن "المستقبل بين جيلين"، بالإضافة إلى مقال وداعى حول عملها على مدى عشرين عاماً بعنوان "20 عاماً... وما خلصت الحكاية".
وأضافت الصحيفة اللبنانية أن عددها الأول "سطر بالأمل فى 14 حزيران من العام 1999، يوم احتضنت العاصمة بيروت نحو 18 ألف مستمع من لبنان والدول العربية والأجنبية ممن حضروا ليطربوا على صوت مغنى التينور الإيطالى لوتشيانو بافاروتى".
كما قدم العدد الورقى الأخير من جريدة "المستقبل" مختارات من أبرز "المانشيت" السياسى والأحداث التى عصفت بالبلد على مر العقدين الأخيرين.
وقالت الصحيفة "يبقى العزاء فى أن "الحكاية ما خلصت"، وتستمر المهمة بأشكال أكثر حرفية وأنماط إعلامية باتت تفرض نفسها على الساحة الإعلامية، تماماً كما يحدث فى العالم ومن حولنا".
وعلى مواقع التواصل، نشر اللبنانيون صوراً وروابط للعدد الأخير من الصحيفة، مودّعين إياها، واعتبروا أن هذا اليوم يدق ناقوس خطر أيضا فى تاريخ الصحافة اللبنانية.
وليست جريدة "المستقبل" وحدها التى تأثرت، فقد خنقت الأزمات العديد من المؤسسات الإعلاميّة فى لبنان، كان بينهم صحيفة النهار الللبنانية، التى فأجات قرائها، أكتوبر الماضى، بالصدور بسبع أوراق بيضاء، وتزامن صدور الصحيفة اللبنانية فى نسختها الورقية بهذا الشكل مع تخصيص مساحات بيضاء بشكل لافت فى أقسام موقعها الإلكترونى دون توضيح من قبل إدارة تحريرها، وسبق ذلك أن أعلنت "النهار" اللبنانية أنها ستتحول إلى الإشتراكات الإلكترونية لوقف تراجعها المتسارع، ووجدت صحيفة النهار نفسها أمام خيارين، إما إقفال الصحيفة، وإما البحث عن مصدر جديد، وهو القرار الذى لجأت إليه بتحويل جزء من محتواها الإلكترونى إلى خدمة مدفوعة.
وسبق صحيفة النهار، جارتها "السفير" التى اتخذت قرارا بتحولها إلى نسخة إلكترونية بشكل كامل، بسبب الظروف الصعبة التى تواجهها. يضاف إلى هذه الصحف أيضا صحيفة "اللواء" و"الأنوار".
الصحف اللبنانية
كما يضاف إلى ذلك إعلان صحيفة "الحياة" اللندنية توقف طبعتها الورقية، فى فرنسا ومصر ولبنان، حيث أعلن، مدير مكتب جريدة الحياة اللندنية، أن الجريدة أوقفت الطبعة الورقية، فى فرنسا ومصر ولبنان، وأن الطبعة الورقية مستمرة فى السعودية ودبى، مؤكدًا أن نسخة دبى هى النسخة الدولية، ولا نية لإلغائها.
وأوضح مدير مكتب جريدة الحياة اللندنية، أن إلغاء النسخة الورقية فى الدول الثلاث؛ يأتى ضمن خطة الجريدة التى بدأتها منذ 3 سنوات، للتحول نحو الديجيتال.
ولا تقتصر الأزمات المالية التى تعانيها الصحف ودور النشر على العالم العربى وبلدان الشرق الأوسط، ففى الولايات المتحدة، طالب اتحاد ناشرى الصحف الكبرى، الكونجرس بالتدخل ومنحهم الحق فى التفاوض جماعيا مع منصات وسائل التواصل الاجتماعى فى حلقة جديدة من الصراع بين دور النشر والقائمين على تلك المنصات لنشرها المحتوى الإخبارى دون مقابل، رغم اقتسامها بشكل جائر، حصة الصحف المطبوعة والإلكترونية فى سوق الإعلانات الرقمية.
وذكر تقرير نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز قبل قرابة عام، أن شركتى فيس بوك وجوجل تستحوذان على أكثر من %70 من سوق الإعلانات الرقمية فى الولايات المتحدة، والذى يبلغ 73 مليار دولار، وهو ما انعكس فى تراجع إيرادات الصحف الأمريكية من الإعلانات عام 2016 إلى 18 مليار دولار مقارنة بـ50 مليار دولار قبل ذلك.
وعن الدور السلبى الذى تلعبه منصات التواصل الاجتماعى ومحركات البحث فى صناعة الإعلام، قال ديفيد تشافيرن الرئيس والمدير التنفيذى لتحالف وسائل الإعلام الإخبارية، فى مقال سابق بصحيفة وول ستريت جورنال "إن فيس بوك وجوجل لا توظفان الصحفيين ولا تتعقب السجلات العامة للكشف عن الفساد، وإرسال المراسلين فى مناطق الحرب، إنهم يتوقعون أن يقوم صناع الأخبار، الذين يتعرضون للضغوط الاقتصادية، أن يقوموا بذلك العمل المكلف بدلا منهم".
الأزمة التى تعانيها كذلك دول أوروبية، وضع "تشافيرن" حلولاً مقترحة لها، بقوله: «الطريقة الوحيدة التى يمكن للناشرين أن يواجهوا بها هذا التهديد العنيد هى الاتحاد معا»، وأضاف: «إذا فتحوا جبهة موحدة للتفاوض مع جوجل وفيس بوك، عاملين على الدفع نحو تعزيز حماية الملكية الفكرية ودعم أفضل لنماذج الاشتراك وتحقيق حصة عادلة من الإيرادات والبيانات، فيمكن أن نبنى مستقبلا أكثر استدامة لصناعة الأخبار».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة