يحتفل الصينيون فى الخامس من فبراير الجارى بأهم المناسبات التقليدية وأكبرها فى الصين، وهو عيد رأس السنة الصينية الجديدة، أو رأس السنة القمرية أو عيد الربيع الصيني، الذى يسمى أيضا بعيد لم الشمل، حيث يلتقى أفراد العائلة بعد فراق قد يمتد لسنة أو أكثر، بسبب ظروف العمل ومواقعه.
وتبدأ سنة 2019 التى تمثل هذا العام برج الخنزير فى التقويم التقليدى الصينى يوم 5 فبراير، فيما اعتاد الصينيون على تسمية هذا الاحتفال بعيد "تشونيون" التى تعنى حرفيا "الهجرة الكبيرة فى الربيع"، وتعد أكبر حركة هجرة أو انتقال موسمى من مكان إلى آخر على كوكب الأرض، حيث تستمر نحو 40 يوما (من 21 يناير حتى أول مارس) يصل خلالها عدد الرحلات عبر الطرق السريعة والسكك الحديدية والمطارات وغيرها من وسائل السفر إلى نحو ثلاثة مليارات رحلة فى المجمل.
وتعود حركة الهجرة الكبيرة خلال هذه الفترة إلى أنه خلال العقود الأربعة الماضية، غادر الكثير من الصينيين بلداتهم للبحث عن العمل أو التعليم فى أماكن أخرى بعيدة عن مساكنهم، لذا تعود الغالبية العظمى منهم إلى ديارها الأصلية من أجل لم شمل العائلة خلال عيد الربيع، والتى عادة ما يستغلها الأهل كفرصة لتزويج أبنائهم انطلاقا من تقدديس الصينيين للحياة الأسرية، حيث يقومون بترتيب لقاءات تعارف لمساعدة وحث الأبناء فى سن الزواج على إيجاد شريك الحياة وبناء أسرة جديدة سيما وأن الكثير من الشباب الصينيين ممن انتقلوا إلى المدينة وعاشوا فيها لا يرغبون فى الزواج المبكر.
وترجع تسمية الأعوام الصينية بأسماء حيوانات، إلى أن الأبراج الصينية تنقسم إلى 12 برجا تمثل 12 حيوانا، وتشكل دورة من 12 عاما، فيما يرجع هذا التقسيم إلى قصة أسطورية تتحدث عن دعوة الإمبراطور السماوى الحيوانات إلى توديعه فلم يأت إلا 12 حيوانا جميعها حيوانات حقيقية ما عدا حيوان أسطورى واحد وهو التنين.
وتضم الأبراج الصينية حيوانات الفأر والثور والنمر والأرنب والتنين والأفعى والحصان والماعز والقرد والديك والكلب والخنزير بالترتيب فى دورة من 12 سنة.
وبالنسبة لأصل احتفالات عيد الربيع، فيرجع تاريخ بدء الاحتفالات إلى ما قبل آلاف السنين، حيث تقول واحدة من الأساطير العديدة حوله، إنه فى الصين القديمة كان يعيش وحش له قرنان اسمه "نيان" (كلمة نيان تعنى سنة بالصينية)، وكان "نيان" المخيف بشكل رهيب يعيش فى قاع البحر طوال السنة ولا يخرج إلى الشاطيء إلا فى عشية العام الجديد فيأكل المواشى ويقتل الناس.
وبسبب ذلك، كان الناس فى كل القرى يفرون عشية العام الجديد، ويأخذون صغارهم وشيوخهم إلى الجبال البعيدة لتجنب المأساة المتوقعة عندما يخرج "نيان"، إلا أنه ذات يوم، وبينما كان أهل قرية تسمى "زهور الخوخ" يتأهبون للاختباء، جاءهم من خارج القرية متسول عجوز يحمل فى يده عصا وفى ذراعه حقيبة، وكانت عيناه تبرقان مثل النجوم ولحيته فضية اللون.
وأسرع القرويون الذين أصابهم الفزع للهروب، ومنهم من كان يغلق النوافذ والأبواب، ومنهم من كان يدفع المواشى والأغنام، وسط صياح الناس وصهيل الخيول، دون أن يلحظ أحد هذا المتسول إلا جدة عجوز تعيش فى أقصى شرقى القرية أعطت المتسول لقيمات من الطعام ونصحته بأن يفر إلى الجبال ليتجنب الوحش، غير أن الرجل تحسس لحيته وقال مبتسما: "إذا سمحتم لى بالبقاء فى داركم طوال الليل فسوف أبعد عنكم الوحش". نظرت إليه العجوز غير مصدقة، وحاولت أن تقنعه بالفرار ولكنه ابتسم من دون رد.
فى النهاية لم تستطع الجدة المسنة إلا أن تفر إلى جبل تاركة دارها، وفى منتصف الليل، اندفع "نيان" إلى القرية، فوجد الأجواء مختلفة تماما عما كانت فى العام السابق، كانت دار الجدة فى شرقى القرية ساطعة الأنوار وأبوابها مغطاة بأوراق حمراء، أصيب الوحش بصدمة فأطلق صرخة عالية غريبة، وحملق بغضب نحو الدار لبرهة، ثم اندفع حتى اقترب من الباب، فجأة انفجرت أصوات مفرقعات، توقف الوحش ولم يجرؤ على التقدم خطوة، بدا واضحا أن ما أخاف الوحش هو اللون الأحمر ولهيب النار والانفجارات، وعندما فتح باب دار الجدة العجوز، خرج المتسول فى رداء أحمر ضاحكا فى فناء الدار، أصيب الوحش بالهلع وفر هاربا.
وكان اليوم التالى هو أول يوم فى أول شهر قمرى، عندما عاد الناس من مخابئهم ووجدوا أن كل شيء على ما يرام، انتابتهم الدهشة، أدركت الجدة العجوز ما حدث وأخبرت أهل القرية عن وعد المتسول، تدفق القرويون إلى دار الجدة فرأوا الأبواب المغطاة بالأوراق الحمراء وأكوام الخيزران مازالت مشتعلة وتطلق أصوات فرقعة فى الفناء، وبضع شمعات مازالت مضيئة فى الغرف.
انتشرت القصة وتحدث الناس عنها، واعتقدوا أن ذلك الرجل المتسول كائن سماوى جاء ليبعد عنهم المآسى ويجلب لهم البركات، وأن الأوراق الحمراء واللباس الأحمر والشمع الأحمر والألعاب النارية المتفجرة هى الأدوات السحرية لإبعاد الوحش "نيان".
ومنذ ذلك الحين، وفى عشية كل عام صينى جديد، صارت كل عائلة تلصق على باب منزلها أبيات من الشعر مكتوبة على أوراق حمراء، وتطلق الألعاب النارية وتجعل البيوت مضيئة وتبقى ساهرة، وفى الصباح الباكر لليوم الأول من العام الجديد، يرتدى الجميع ملابسهم وقبعاتهم الجديدة ويذهبون إلى أقاربهم وأصدقائهم لتهنئتهم بالعام الجديد.
وحيث إن مهرجان الربيع التقليدى يستمر لأكثر من شهر، فهناك إعداد مسبق لهذا المهرجان، إذ إن الناس تقوم فى الأسبوع الأخير من "لا يويه" (الشهر الثانى عشر من التقويم القمري) بتنظيف المنزل، اعتقادا منهم بأن معظم الآلهة تعود إلى الجنة لتقديم تقرير عن أعمالهم مع نهاية العام، لذا يمكن للناس أن تنظف المنزل دون إزعاجهم أو الإساءة إليهم.
ويتم خلال الأسبوع الأخير من "لا يويه" الاحتفال بمهرجان "إله المطبخ" الذى يراقب سلوكيات الأسرة من حيث المأكل والشراب طوال العام، حيث تقوم الأسرة بتقديم قرابين خلال هذا الاحتفال تتضمن حرق الصورة القديمة لإله المطبخ ولصق صورة جديدة له، وتقديم قرابين تتضمن رأس خنزير وسمكة وفطيرة وفواكه متنوعة، حتى يقدم الإله تقريرا جيدا عن الأسرة عند صعوده للجنة لتقديم تقريره السنوي.
زحام على القطارات بالصين
كما يقوم الصينيون خلال هذا الأسبوع بطهى اللحوم، وغسل الملابس والاستحمام، فى صورة رمزية تعنى غسل كل الحظ السييء والأمراض المحتملة خلال السنة القمرية الجديدة القادمة، مع توجه الناس قبل يوم من عشية رأس السنة القمرية إلى مقابر أسلافهم وحرق البخور وأوراق الجوس تعبيرا عما يطلقون عليه "شياو" (البر)، أو طاعة الوالدين فى الصين.
وتعتبر عشية العام القمرى الجديد أهم يوم فى لم الشمل العائلى طوال العام، حيث تجتمع الأسرة للاحتفال بالمهرجان، ويظل جميع أفراد العائلة لوقت متأخر انتظارا لبدء السنة الجديدة، فيما يحصل الأطفال على حزم حمراء، أو مظاريف حمراء، بداخلها نقود "عيدية" (يا سوى تشيان)، وغالبا تكون قيمة النقود متضمنة أرقاما تجلب الحظ مثل الرقم 8 الذى يقارب فى النطق الفعل "فا" ويعنى الثراء والغنى، أو الرقم 6 الذى ينطق "ليو" ويعبر عن التوفيق والنجاح، أو الرقم 9 الذى ينطق "جيو" ويعنى الأمد والعمر الطويل.
ومع التطور التكنولوجى الكبير الذى تمر به الصين، تطورت ثقافة "الظرف الأحمر" لكى يصبح ظرفا إلكترونيا يتم تناقله عبر تطبيقات الـ "ويتشات" و "على باي" وغيرها .
وفى اليوم الأول من "تشنغ يويه" (الشهر الأول من التقويم القمري)، يزور الناس منازل الأصدقاء والأقارب ويهنئون بعضهم البعض فى العام الجديد، ويستخدمون الكلمات الميمونة للصلاة من أجل حظ سعيد فى السنة الجديدة.
ويحافظ الصينيون على التقاليد الخاصة بالاحتفال بهذا العيد المهم، حيث يتم إضاءة المصابيح (الفوانيس) قبل العام القمرى الصينى الجديد، وتظل معلقة حتى منتصف الشهر القمري، وتأخذ دائما اللون الأحمر الذى يرمز إلى الحماسة والقوة والحيوية، مع أداء رقصات تقليدية شهيرة كرقصة الأسد والتنين.
وتضم أشهر الأكلات فى أول يوم من عيد الربيع بالصين، طبق "جياوتسي" الذى يعود لأكثر من 1800 عام وهو الطبق التقليدى لعشية عيد الربيع، ويشيع جدا فى شمال الصين، ويشبه شكل "جياوتسي" سبيكة معدنية ذهبية صينية، وأكله يعنى "جلب الثروة"، ويمكن للناس حشو هذا الطبق بكل أنواع الأطعمة التى يحبونها تعبيرا عن آمالهم الطيبة للعام الجديد.
كما أن هناك أكلات أخرى مثل "كرات الأرز الحلو"، و"كعك الأرز الصيني"، وحساء الدجاج الذى يرمز إلى السلام، و"الأسماك" حيث نطق "الأسماك" بالصينية هو نفس نطق كلمة "بقاء"، فيما يفضل البعض تناول "الحلويات" كوجبة أولى خلال عيد الربيع، ما يرمز أن الحياة جميلة وسعيدة فى العام الجديد.
وعلى الرغم من تشابه بعض العادات المرتبطة بقدوم عام جديد بين مختلف الشعوب، إلا أن الصينيين يظلون متفردون فى طقوسهم واحتفالاتهم حيث يحافظون على الهوية الثقافية والتاريخية العريقة لبلادهم، مع مواكبة عجلة التطور والحداثة التى يشهدها العالم لتعميق التواصل والتلاقى بين جميع الشعوب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة