فى الوقت الذى تتلقى فيه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى، صفعات متتالية بشأن خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبى، والمقرر فى أواخر مارس المقبل، بسبب رفض البرلمان البريطانى للاتفاق الذى عقدته مع الكيان الأوروبى من جانب، بالإضافة إلى تعنت الأوروبيين فيما يتعلق بتعديل الاتفاق من جانب أخر، لم تجد الحكومة البريطانية سوى شعار "بريطانيا العالمية" لترفعه ليكون بمثابة عنوان لطموحات لندن فى المرحلة المقبلة، ليطرح العديد من التساؤلات حول ما إذا كان مثل هذا الشعار يهدف التغطية على الفشل البريطانى الذريع فى التوصل إلى اتفاق حول "بريكست" أم أنه يحمل فى طياته خطة للعودة من جديد إلى دور قيادى على الساحة الدولية.
يبدو أن حلم استعادة القيادة الدولية ظل يداعب خيال قادة المملكة "التى لم تغب عنها الشمس" لسنوات طويلة، منذ أن بدأ يتوارى النفوذ البريطانى فى أعقاب سقوط حائط برلين فى نوفمبر 1989، وما تلى ذلك من أحداث على رأسها توحيد الألمانيتين، وانهيار الاتحاد السوفيتى، لتصبح ألمانيا الموحدة بعد ذلك بديلا للقوى الأوروبية الرئيسية تدريجيا، فى قيادة أوروبا، باعتبارها الحليف الرئيسى للولايات المتحدة، وهو الأمر الذى تجلى بوضوح خلال حقبة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، والذى حظى بعلاقة قوبة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مما جعلها على قمة المشهد الأوروبى خلال سنواته الثمانية فى البيت الأبيض.
محاولات دبلوماسية.. بريطانيا فشلت فى حشد الغرب تحت رايتها
إلا أن التغيرات الكبيرة التى شهدتها العلاقات الأمريكية الألمانية منذ صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى رأس السلطة فى بلاده، قبل حوالى عامين، بالإضافة إلى موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبى، ربما أعادت الحياة من جديد للحلم البريطانى بالعودة إلى صدارة المشهد الدولى، على الأقل فى أوروبا، وهو ما بدا واضحا فى حرص ماى على مغازلة الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث كانت أول زائر للبيت الأبيض بعد أيام قليلة من تنصيب الرئيس ترامب، للترويج لنفسها كشريك موثوق للولايات المتحدة، بديلا للشريك الألمانى المغضوب عليه من قبل الإدارة الجديدة.
ترامب وماى
ولم تتوقف المحاولات البريطانية لاسترضاء واشنطن عند هذا الحد، وإنما سعت إلى اتخاذ مواقف متشددة تجاه روسيا، خاصة بعد محاولة تسميم العميل الروسى المزدوج سيرجى سكريبال فى العام الماضى، حيث اتهمت الحكومة البريطانية موسكو بالتورط فى الحادث فى محاولة لحشد أوروبا والولايات المتحدة تحت رايتها السياسية فى مواجهة جديدة مع الروس، تحت غطاء تعاونى أخر أكثر شمولا من الاتحاد الأوروبى، على غرار الناتو.
ولكن المحاولات البريطانية باءت بالفشل، خاصة وأن ترامب كان يتوقع موقفا بريطانيا أكثر حزما تجاه الاتحاد الأوروبى، وبالتالى لم يكن راضيا عن تنازلات ماى فى مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبى، وهو ما بدا واضحا فى زيارته التى أجراها للندن فى يوليو الماضى، حيث دعا ماى خلالها إلى عدم التفاوض مع أوروبا حول "بريكست" والتوجه إلى مقاضاة الاتحاد الأوروبى من ناحية، كما أن قادة أوروبا لم يقبلوا بقيادة بريطانية فى ظل مسيرة للندن نحو الانشقاق عن الكيان المشترك فى ظل تداعيات هذه الخطوة التى قد تفتح الباب أمام انهياره فى المستقبل القريب، حيث اكتفت قيادات القارة العجوز بالتصريحات والإجراءات الشكلية لإدانة محاولة اغتيال سكريبال، بينما اتجهوا فى نفس الوقت إلى تقوية علاقاتهم مع موسكو عبر التعاون فى مجال الطاقة من ناحية أخرى.
القوة الصلبة.. لندن تسعى للعالمية عبر توسيع دورها العسكرى
لعل الرفض الأوروبى الأمريكى للقيادة البريطانية يمثل دافعا قويا لحكومة لندن نحو فرض نفسها بالقوة كقوى دولية وإقليمية فى المرحلة المقبلة، عبر استخدام الأدوات الصلبة للدولة، والمتمثلة فى القوات المسلحة البريطانية، لتحقيق مثل هذا الهدف فى المرحلة الراهنة، بعدما فشلت وسائل الدبلوماسية من قبل، حيث تسعى حكومة تيريزا ماى إلى توسيع نطاق وجودها العسكرى فى مناطق مختلفة بالعالم، فى إطار رغبتها فى القيام بدور أكثر تأثيرا تحت مظلة حلف الناتو.
حاملة الطائرات الملكة إليزابيث
الرؤية البريطانية الجديدة، لاستعادة القيادة العالمية، عبر عنها بوضوح وزير الدفاع جافين وليامسون، فى تصريحات له قبل أيام، أكد فيها نية بلاده توسيع دورها العسكرى فى البحر المتوسط والشرق الأوسط والمحيط الهادى عبر حاملة طائرات الملكة إليزابيث، والتى ستحمل طائرات من طراز "إف 35".
ويعد التوجه البريطانى نحو استخدام ما يمكننا تسميته بـ"الدبلوماسية العسكرية" بمثابة محاولة لاستلهام الماضى البريطانى، والذى اعتمد إلى حد كبير على القوة العسكرية لفرض نفوذ لندن فى العديد من مناطق العالم إبان الحقبة الاستعمارية، وإن كانت الصورة تبدو مختلفة فى ظل اختلاف المعطيات والظروف الدولية فى الوقت الراهن.
صفقة ضمنية.. بريطانيا تقدم نفسها بديلا للقيادة الأمريكية للناتو
ويمثل التوجه البريطانى نحو الناتو فى اللحظة الراهنة، ليكون مظلتها الجديدة لقيادة أوروبا، بالتزامن مع اقتراب الخروج من الاتحاد الأوروبى، بمثابة محاولة لسد الفراغ الناجم عن حالى التخلى الأمريكى عن الحلف، والذى يبدو واضحا فى تصريحات ترامب، منذ بزوغ نجمه على الساحة السياسية الدولية، حيث يسعى إلى تخفيف الوجود العسكرى الأمريكى فى العديد من مناطق العالم بشكل عام، كما استهدف الناتو بشكل خاص من خلال مطالباته المتواترة للدول الأعضاء بالحلف بالوفاء بالتزاماتهم المالية، ملوحا بالانسحاب فى حالة عدم الاستجابة لهذا المطلب، والذى لقى تأييدا كبيرا من الجانب البريطانى فى الآونة الأخيرة.
ألمانيا شكلت عقبة رئيسية أمام ماى لاستعادة نفوذ بريطانيا
وهنا تقوم الرؤية البريطانية على استرضاء واشنطن، ولكن فى إطار عسكرى، عبر صفقة ضمنية تقدمها لندن، تتبنى خلالها نفس المطالب الأمريكية داخل الحلف، بينما تقدم قواتها العسكرية فى الوقت نفسه كبديل متاح يمكن الاعتماد عليه من قبل الحلفاء، فى حالة الانسحاب أو على الأقل تخفيف الوجود العسكرى الأمريكى فى أوروبا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة