مضى الفتى، الذى يتوهم نفسه عاشقًا، فى طريقه المعتاد، أخرج وريقات ملونة من حافظته، اشترى باقة ورد وسلسلة فضية تنتهى إلى قلب معدنى بارد، وكذلك فعلت الفتاة، وكتب كل منهما عبارة محفوظة ومحايدة جدًا، ثم تبادلا أوهامهما بإيمان عظيم.
اليوم، يحتفل الفتى والفتاة بعيد الحب، مؤمنين تمامًا بأن الأمور المقدسة يصلح أن تُشترى من محلات الورد وصناع الفضة. وموهومين أيضًا بأن استهلاك العبارات الرثة، ثابتة المبنى وصلدة المعنى، قد يُنتج سياقات عصرية صادقة وحقيقية.
تقول أسطورة إغريقية قديمة، إن هيرا وأثينا وأفروديت اختصمن فى تفاحة، وقضى «باريس» بطل إلياذة هوميروس بأن تكون لإلهة الجمال التى وعدته بالزواج من «هيلين» أجمل نساء الأرض، فكانت معركة طروادة، وكانت أول إشارة قوية على أن الحب مخلوط بالحرب والدم. ومن روح الأسطورة يمكن القول إن الله خلق الأرواح أزواجا ملتصقة، كل اثنين يشبهان تفاحة واحدة كاملة الاستدارة، لكن الأيام شقتها وفرّقت نصفيها، لتبدأ معركة الحب التى لا نهاية لها إلا بالاتحاد، وكأننا فى معالجة متجددة لخطأ آدم وحواء.
يصعب اختزال المحبة فى عبارة أو طقس، إذ إنها حرب مفتوحة على العالم والناس، وفى الحرب لا متّسع لحياد اللغة أو بلاغة الورد وبرودة المعدن، فى الحرب يجتهد الجميع حتى تظل نافورة الدم فوّارة متدفقة، وإذا خمدت فإن طرفًا قد حاز النصر، والآخر انكسر، وفى الحب لا تصح الهزيمة، إما نصر للغريمين وإما احتدام بلا نهاية. وهكذا يمكن القول «إن أول مقتلة للحب أن نخصص له عيدًا، وكأنك تُقشّر التفاحة بدلًا من شقّها أو لصقها».
عرفت روما فى القرنين الثانى والثالث الميلاديين قديسين باسم فالنتينوس، أو فالنتين، الأول كان قسيسا لمدينة انترامينا «ف اسمها وقتها تورنى» وقُتل فى فترة الاضطهاد المسيحى على يد الإمبراطور أوريليوس على الأرجح، والثانى كان قسيسا فى روما وقُتل خلال العام 296 فى إمبراطورية مكسيميانوس، ودُفن الاثنان بالقرب من طريق «فيا فلامينا»، ولم تكن لقصتيهما أية علاقة بالحب.
أقرب الشواهد تؤكد أن ربط القديسين بعيد الحب يعود إلى أثينا الأسطورية، وشهر «جامليون» الممتد بين منتصفى يناير وفبراير، نسبة للزواج المقدس بين زيوس كبير آلهة الإغريق و«هيرا»، ويقال إن روما كانت تحتفل بالخصوبة أو عيد «لوبركايلى» بين الثالث عشر والخامس عشر من فبراير، والرابط الوحيد بالقديسين أنهما دُفنا ونُقل رفاتهما لاحقا فى الرابع عشر من فبراير، ولاحقًا أيضًا قررت الكنيسة الاحتفال بعيد فالنتينوس فى ذلك اليوم، بعدما زال الفارق بين الشخصين اللذين يحملان الاسم، وجرى دمجهما فى شخص واحد، كمحاولة لـ«مسحنة» أو تنصير عيد «لوبركايلى» الوثنى.
ربما يكون أول ربط للعاطفة بعيد فالنتينوس، بدلًا من رباط الخصوبة، ما كتبه الإنجليزى جيفرى تشوسر فى قصيدته «برلمان الأكاذيب» خلال العام 1382: «وفى يوم عيد القديس فالنتين/ يأتى كل طائر بحثًا عن وليف له»، وفى 1400 شهدت باريس إقامة محكمة لشؤون الحب وعقود الزواج، وتصادف بدء نشاطها فى مثل يومنا هذا.
لاحقًا تطور الأمر فى دول أوروبية عدة، وتوسع فى الولايات المتحدة فطُبعت بطاقات ملونة ومُزيّنة بقصاصات الدانتيل، صنعتها لأول مرة استر هاولاند منتصف القرن التاسع عشر، واتّخذ عيد القديسين فالنتينوس، أو يوم الفالانتين، منذ ذلك الوقت شكله وهيئته المعروفين، وعبارته البروتوكولية «عيد حب سعيد».
بحسب القصة الشائعة، غير الصحيحة بالمرة، تحمل فالنتينوس عبء الجمع بين حبيبين مخالفًا القانون السائد وقتها بمنع زواج الجنود، ودفع حياته فخُلّد اسمه رمزًا للحب، ولا تهتم الحكاية أسطورية الطابع بالحبيبين نفسيهما، لا تتلمّس خيوط قصتهما، أو مسارهما فى الحياة، وكيف تعاملا مع العاطفة ومارسا حبهما وامتدت خطواتهما فى الزمن وعلى قبر فالنتينوس؟! وهل رعيا ذكرى المُضحىّ من أجلهما أم أكل كل منهما روح الآخر؟ لم يهتم الوعى الجمعى، المظهرى بالضرورة، بالحب نفسه كمادة فعل وتأسيس للحدث، وإنما اهتم بتجليه الدرامى، أو بالأحرى الميلودرامى المؤسطر، وطوّح جوهره على طول ذراعه فى فراغ بعيد.
المسار التاريخى لليوم الذى لا علاقة له بالحب وفق أوثق الحقائق، يشبه حالته القائمة هنا والآن، التى لا علاقة لها بالحب أيضًا، إذ لا يمثل سوى تصنيم مادى لفكرة الوجدان المقدسة فى معنويتها ومخيالها، الفكرة التى يُفترض أن تتخذ الحياة مادة خلق يومى، وتتجدد فى الصمت والكلام، الوصل والخصام، الضيق والسعة، وفى الجمال والقبح. لكن القالب الذى سبكت فيه البشرية حكايتها مع الحب أنتج ممارسة استهلاكية عارضة، تحتفى بأقدس روابط البشرية كالتماس للجمال والدعة والهدوء والملاطفة والافتتان والمَنح وحسب، وفى يوم بعينه، مستبعدة تجليات الحب الأخرى، فى الفوضى والحدّة والصخب والملاوعة والزهد والأخذ من إطار الصورة، فكأنك أمام تأطير نسبى للمُطلق المنداح دون حدّ ولا أفق، واجتزاء انتقائى للكُلّ المُركّب دون تبسيط أو تسطيح، وخصم من عصمة المعصوم العَلىّ تكييفًا له على مقاس المتورِّط الدنىّ.
الحقيقى جدًا - حسب تصورى - أن الحب واحد من أسماء الله الحسنى «الخفية»، ومن ذلك الباب يتصل بالإطلاق الإلهى اتصال المعاضدة والتلاحم، أى أنه مجمع كل الأشياء وواحديتها فى آن، والتقاء الأضداد، والكمال من حيث كونه مادة نقص، ومطلق الجمال ممزوجًا بمطلق القبح، الخير معانقًا الشر، والوصل المطلق رتقًا بالفراق المطلق، وإن صح فى لغة الحب انتقاء الحبيب ورؤيته فى حال أو يوم أو ظرف أو شعور، دون أحوال وأيام وظروف ومشاعر، فليس الحب حبًّا، وهكذا فإن كل تجلياته التى نستهلكها فى يوم فالنتينوس ليست من الحب، هى ابنة التسليع والإشباع المؤقت وانفصال المُحبّ عن المحبوب، لا بنت الجوع المُتّقد والنهم الدائم والافتراق حدّ القطيعة والامتزاج حدّ الوحدانية.
المحبة حَكى بالصمت، تأشير بأصابع مبتورة، اكتحال بالملمح على الغيبة، وبالغياب فى حضرة الحضور، وما قال مُحبّ إنى أحب وصدق، وما لمعت عين فى القرب وكانت لمعتها ميثاقًا غليظًا، أو انطفأت فى البُعد وكان انطفاؤها وصلًا، وكما قال ابن عربى «كل شوق يسكن باللقاء لا يُعوّل عليه»، فإن كل حب يتوسل بذكرى القديس فالنتينوس لا يُعول عليه، وإنما هو تخريب المؤمنين لقلوب الوثنيين، وتقشير ساذج للتفاحة المقدسة.