فى الوقت الذى يحارب فيه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لحماية بلاده من التهديدات الأمنية المحيطة بها، عبر إصراره على بناء الجدار العازل على الحدود الأمريكية المكسيكية، يبدو أنه يسعى فى المرحلة الحالية إلى تصدير المخاطر للدول الأخرى، وهو ما بدا واضحا فى دعوته لحلفائه الأوروبيين لاستعادة مواطنيهم، الذين انضموا إلى ميليشيات التنظيم المتطرف فى السنوات الماضية، وهو ما ترفضه دول القارة العجوز، بسبب التهديدات التى تشكلها تلك العناصر على أمنهم، خاصة وأن مشاهد الأشلاء والدماء مازالت حاضرة فى أذهانهم بعد الهجمات، التى شنها عناصر التنظيم المتطرف، أو الموالين لهم فى الداخل، فى السنوات الماضية.
ولعل الدعوة التى أطلقها ترامب، والتى خص بها حلفائه الأوروبيين، تمثل استدعاء مباشر لشبح الإرهاب فى الغرب الأوروبى فى المرحلة الراهنة، وهو الأمر الذى لا يمكن فصله بأى حال من الأحوال عن التوترات التى شابت العلاقات الأمريكية الأوروبية منذ صعود الرئيس الأمريكى إلى البيت الأبيض منذ عامين، على خلفيات عدة، منها ما هو ثنائى، كالخلافات التجارية التى ثارت بفرض رسوم جمركية على الواردات القادمة من أوروبا، وكذلك موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبى، أو ما يتعلق بالعديد من القضايا الدولية، وعلى رأسها الموقف من إيران، أو القرار الأمريكى بالانسحاب العسكرى من سوريا، والذى يمثل تخليا مباشرا عن حلفاءه المشاركين فى قوات التحالف الدولى.
تغريدة ترامب
دبلوماسية داعش.. الإرهاب سلاح واشنطن لمجابهة الخصوم والحلفاء
وهنا يمكننا القول بأن داعش أصبحت بمثابة أحد أوراق الدبلوماسية الأمريكية، والتى يسعى الرئيس ترامب إلى استخدامها فى المرحلة الراهنة لتكثيف الضغوط، ليس فقط على الخصوم، ولكن أيضا على الحلفاء المارقين، خاصة وأنها ليست المرة الأولى التى يثور فيها الحديث عن رغبة واشنطن فى "إعادة تدوير" التنظيم المتطرف، لتحقيق أهدافها، بعدما تناول مسئولون روس أطروحات مشابهة، حول قيام الولايات المتحدة بنقل مقاتلى التنظيم إلى الحدود الأفغانية، فيما اعتبروه تهديدا مباشرا لموسكو.
أسامة بن لادن حظى بدعم واشنطن للقضاء على النفوذ السوفيتى
ويمثل استخدام واشنطن لورقة التنظيمات المتطرفة ليس بالأمر الجديد فى اللعبة الأمريكية، فقد سبق لها وأن استخدمت الورقة ذاتها إبان الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، حيث كان الزعيم التاريخى لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن، والذى قتلته القوات الأمريكية نفسها بعد ذلك بسنوات، هو أحد رؤوس الحربة الذى اعتمدت عليه الولايات المتحدة لتدمير القوات السوفيتية إبان الحرب الباردة، ليتحول بعد انتهاء مهمته إلى العدو الأبرز لأمريكا لسنوات طويلة، خاصة بعد هجوم 11 سبتمبر الذى تبناه تنظيم القاعدة، والذى أودى بحياة ألاف الأمريكيين.
مسار متواز.. داعش وسيلة واشنطن لإعادة تشكيل تحالفاتها فى أوربا
إلا أن الجديد فى اللعبة الأمريكية يتمثل فى التلويح باستخدام التنظيمات المتطرفة لتهديد الحلفاء فى أوروبا على مسار متواز مع استخدامها لإزعاج موسكو والتى تعد الخصم التاريخى لواشنطن، وهو ما يمثل امتدادا للخطوات التى تتخذها الإدارة الأمريكية، ليس فقط لإجبار الحلفاء على الدوران فى فلك واشنطن بناءا على الرؤية التى يتبناها ترامب، والتى تقوم على ضرورة أن يتحمل الحلفاء مسئوليتهم العسكرية بجانب الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه المشروعات السياسية والعسكرية المشتركة، وإنما أيضا فى إطار محاولات واشنطن لإعادة هيكلة تحالفاتها فى أوروبا.
ويعد استخدام التنظيمات الإرهابية فى إعادة تشكيل التحالفات الأمريكية ليس بالأمر الجديد تماما، خاصة وأنها كانت وسيلة واشنطن لتحقيق الهدف نفسه قبل سنوات، ولكن فى منطقة الشرق الأوسط، وذلك عبر مهادنتها، بل وتمكينها من الوصول إلى السلطة فى بعض دول المنطقة، فى إطار رغبتها فى استبدال تحالفاتها التقليدية، والتى اعتمدت لسنوات على الدول الرئيسية بالمنطقة، وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية، بالحليف التركى، والذى كان بمثابة الذراع الذى اعتمد عليه الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما لدعم تلك التنظيمات.
مؤتمر وارسو
ولعل الملفت للانتباه أن دعوة ترامب لم تشمل كل دول القارة العجوز، بينما خصت دولا بعينها، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهى الدول التى مثلت حلفاء واشنطن التاريخيين، بينما جاءت بالتزامن مع انعقاد مؤتمر وارسو، والذى كان بمثابة إعلان واضع عن تغير وجهة أمريكا نحو الشرق على حساب ما يسمى بدول "المعسكر الغربى"، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا للتوجهات الأمريكية الجديدة فى أوروبا والتى تقوم على مزاحمة موسكو فى عمقها الاستراتيجى عبر التقارب مع دول وسط وشرق أوروبا.
مؤشر جديد.. ترامب يواصل سياسة التخلى عن حلفاءه
وتعد الخطوة الأمريكية مؤشرا جديدا على حالة التخلى عن الحلفاء التاريخيين فى أوروبا الغربية، خاصة وأنها تتزامن مع تنصل ضمنى من قبل واشنطن تجاه التزاماتها، خاصة تجاه حلف شمال الأطلسى "الناتو"، ودعواتها المتواترة حول ضرورة أن يفى الحلفاء بالتزاماتهم تجاه الحلف، سواء ماليا أو عسكريا، وهو الأمر الذى وصل إلى حد التلويح بإمكانية الانسحاب الأمريكى من التحالف التاريخى، الذى ظل لسنوات بمثابة رمزا لبقاء المعسكر الغربى، رغم نهاية الحرب الباردة، وانهيار الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتى، خاصة أن الدعوة الأمريكية لم تخلو من تهديد صريح بإمكانية إطلاق سراح المقاتلين.
العلاقة بين ترامب وحلفاءه التاريخيين فى أوروبا شابها التوتر
يبدو أن التلويح الأمريكى بإطلاق سراح المقاتلين الأوروبيين، إذا لم تلقى دعوة الرئيس الأمريكى استجابة من قبل حلفاءه هى بمثابة دليل جديد على العلاقة المشبوهة بين التنظيمات المتطرفة والولايات المتحدة، والتى بدت بوضوح فى الماضى القريب مع مهادنة واشنطن لتلك التنظيمات إبان عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والذى فشل تحالفه فى إحراز أى تقدم من شأنه دحض الميليشيات المتطرفة فى سوريا، لولا التدخل العسكرى الروسى فى عام 2015، وهو ما يعكس إمكانية استخدام التنظيم لتحقيق الأهداف الدبلوماسية الأمريكية فى المرحلة المقبلة، ولكن فى مناطق أخرى فى العالم ربما تبتعد عن الشرق الأوسط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة