عاد الوزير الإيرانى الأبرز فى عالم الدبلوماسية محمد جواد ظريف إلى صفوف الجماهير الإيرانية بعد رحلة عمل بلغت 67 شهرا، تولى خلالها حقيبة وزارة الخارجية، وكان المسئول الأول فى الملف النووى الإيرانى الشائك منذ عام 2013، فاختاره الرئيس حسن روحانى آنذاك بعد صعوده لرئاسة البلاد، ومنحه أحد أبرز الملفات تعقيدا فى إيران، لدرايته بالثقافة الغربية، وحياته التى قضاها فى الولايات المتحدة منذ أن كان ذا الـ17 عاما، خصائص أهلته للتصدى للخارجية الإيرانية ليكون واجهة دبلوماسية برجماتية للتعامل مع الغرب والخروج بطهران من نفق العقوبات الفتاكة، لكنها فى الوقت نفسها شكلت وبال على صاحبها فى الداخل الإيرانى، وسط هيمنة المتشددين وتعزيز نفوذهم فى هيكل السلطة، فنُعت على منابر المساجد وأبواق البرلمان بالخائن وقت اتمامه صفقة الإتفاق النووى مع القوى الست فى 2015.
أعادت استقالة ظريف المفاجئة على مواقع التواصل الاجتماعى، إلى أذهان الإيرانيين الانقلاب على حكومة مصدق الوطنية نتيجة تأميم النفط، ووقوفه أمام إرادة الغرب الطامع فى ثروات إيران آنذاك، فتمت الإطاحة به فى انقلاب مخطط له من الخارج فى عام 1953م، وففى عام 2014 وصف الإيرانيون ظريف بالبطل القومى وشبهوه برئيس الوزراء محمد مصدق، بعد أن ظهر خلال إحدى اجتماعات المفاوضات النووية على كرسي متحرك بسبب ألم شديد فى قدمه وخصره، وانتشرت هذه الصورة لتذكر الإيرانيين بمصدق الذي كان يحضر للمحكمة العسكريّة على كرسي متحرك أيضا، الفارق أن الاطاحة بمصدق كان بأدوات خارجية ونفذ بأيد إيرانية.
غير أن استقالة ظريف كان لها أسباب وتمهيدات داخلية صاحبت المشهد الإيرانى المتأزم وقد تكون نفذت بمخطط داخلى وبأيدا إيرانية ايضا، فالمتشددون فى الداخل كانوا على صراع دائم معه على مدار السنوات الـ 5 الماضية، وجائت صورة حسن روحانى فى لقاءه بالرئيس السورى بشار الأسد أمس الأحد لتكون بمثابة القشة التى قسمت ظهر البعير، ففى حدث نادر فى الدبلوماسية الإيرانية ظهر "قاسم سليمانى" قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى فى هذا اللقاء إلى جوار روحانى والأسد وغاب ظريف فى اللقاءين سواء لقاء المرشد بالأسد أو روحانى.
انقلاب سليمانى الناعم على ظريف
حضور سليمانى اللقاء
جواد ظريف الدبلوماسى المبتسم الذى حث الإيرانيين على الابتسامة فى مذكراته المنشورة فى عام 2013 وكتب "عليك أن تبتسم دائما.. ولكن لا تنسى أبدا أنك تتحدث مع عدو"، خرج مبتسما وفى ابداء أسباب الاستقالة، استكفى بارسال صورة لقاء روحانى بالرئيس السورى لصحفى إيرانى، وكتب "وزير خارجية إيران بعد هذه اللقاءات لم يعد له قيمة فى العالم"، ولم يرسل صورة تواجد قاسم سليمانى فى اللقاء، ربما أراد ألا يدخل فى صراع مباشر مع سليمانى ونفوذ الحرس الثورى الواسع فى هيكل السلطة فى إيران، وما يؤكد هذه الفرضية هو خروج وسائل الإعلام المقربة من الحرس بتصريحات من النائب حشمت الله فلاحت بيشه رئيس لجمة الأمن القومى والسياسة الخارجية والذى أكد وجود علاقات وثيقة بين سليمانى وظريف، ردا على التقارير والتكهنات التى تحدثت عن وجود سليمانى بينما غاب ظريف.
وحمل تقديم الوزير الإيرانى استقالته عبر وسائل التواصل الاجتماعى دلالات كبرى فى وقت حساس تعانى منه طهران العقوبات والانقسامات الداخلية والصراعات بين أجنجة السلطة، قد أكدت الخلاف مع الرئيس حسن روحانى، حول الاستقالة، التى أعلن مدير مكتبه محمود واعظى عدم قبولها حتى كتابة هذه السطور، وبذلك وضع ظريف روحانى بمأزق عبر إحداث فراغ بإحدى أهم الوزارات.
ظريف والمتشددين.. 5 سنوات من الصراع
بشار الأسد مع خامنئى
وبلغ صراع جواد ظريف مع التيار المتشدد إلى ذروته الأشهر الأخيرة، لاسيما مع رفض المتشددين الذين يهيمنون على مجمع تشخيص مصلحة النظام انضمام إيران إلى مجموعة مراقبة العمل المالي (FATF) والامتثال إلى معايير المجموعة والانضمام إلى اتفاقيتي مكافحة الجريمة الدولية (بالرمو) ومكافحة تمويل الإرهاب (CFT)، بذريعة أنها تعارض خصائص الثورة الإيرانية، وخشية منع تدفق الدعم الإيرانى للحركات الموالية لها ومن بينها حزب الله فى لبنان، رغم دعوات جواد ظريف ورجال الخارجية لرجال المجمع بقبول الانضمام للإتفاقية لتسهيل عمل آلية الأوروبيين للالتفاف على العقوبات، وكى تتمكن طهران والانضمام للسوق العالمى والنظام المصرفى الدولى عبر التنظيم والشفافية البنكية، والهجوم الحاد الذى شنه المتشددون ضده بعد أن كشف نهاية عام 2018 عن وجود عمليات غسيل أموال تحدث فى جهات عليا (الحرس الثورى).
وبالعودة للوراء قليلا فقد تفجر الصراع بين وبين المعسكر المتشدد، عندما وقع الاتفاق النووى الذى وصفه بالـ"مثالى" بعد مفاوضات ماراثونية فى عام 2015 أمام القوى الست الكبرى، ونعت المتشددين ظريف "بالخيانة"، واستدعاه البرلمان للاستجواب بعد توقيع الصفقة ولتقديم إجابات على تساؤلات النواب حول عملية المفاوضات، ووقعت مشاداة كلامية بينه وبين نائب متشدد فى البرلمان، اتهمه النائب فيها "بالخيانة" للمرشد الأعلى، وعدم مراعات الخطوط الحمراء التى حددها فى المفاوضات النووية، وشكلت صور التقطت للوزير مع نظيره الأمريكى الأسبق جون كيرى وهو يتبادل الضحكات معه خلال سيرهما فى أحد شوارع جنيف مادة خصبة لهجوم التيار المتشدد فى 2015.
أسباب الاستقالة التى أبداها الوزير الإيرانى أكدت ما تناقلته وسائل الإعلام الإيرانية منذ أشهر بوجود خلافات عميقة بين الإثنين ظريف وروحانى رغم نفى متحدث الخارجية بهرام قاسمى فى سبتمبر 2017 ويناير 2019، معتبرا أن العلاقات بينهما "حميمية وبناءة للغاية"، ورغم ذك تفاقم الخلاف وأدى فى نهاية المطاف لتقديم استقالته عبر وسائل التواصل الإجتماعى. وقال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مقابلة إن الصراع بين الأحزاب والفصائل في إيران له تأثير ”السم القاتل“ على السياسة الخارجية.
إيران تفقد وجها برجماتيا مقبولا لدى الغرب
ظريف
ووسط إصرار جواد ظريف على الاستقالة، ففى حال قبول روحانى استقالته، فستفقد إيران وحكومة روحانى المعتدل إحدى حلقات التواصل مع الغرب، بعد أن شكل منذ عام 2013 وجها معتدلا جديدا لسياسة خارجية جديدة وعد بها روحانى أمام وزراء الخارجية المتشددين الذين سبقوه، ففى العام نفسه اختاره الرئيس الإيرانى لقيادة الوفد الإيرانى فى المفاوضات النووية مع الغرب، نتيجة لعلاقاته الدبلوماسية مع العديد من الأطراف الغربية، وهى سمة مكنته من تخفيف التوترات مع الولايات المتحدة والدول الغربية آنذاك قبل صعود ترامب وانسحابه من الاتفاق المبرم فى 2015.
وفى عام 2016 ساعدت رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة بين ظريف ووزير الخارجية الأمريكى جون كيري في نزع فتيل التوترات بين البلدين في أوقات حرجة مثل اعتقال عشرة من أفراد مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) في المياه الإيرانية رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 1980. وقالت تقارير أن اتقان ظريف للغة الإنجليزية كان له الفضل في الانسجام بينه وبين وزير كيري حتى أنهما كانا يتخاطبان بالاسم الأول دون كلفة خلال المحادثات النووية المكثفة.
روحانى فى صدمة فراغ الحقيبة الدبلوماسية
جواد ظريف مع كيري
أما روحانى الذى وضعه ظريف بمأزق فراغ وزارة الخارحية، لم يقبل الاستقالة بشكل رسمى حتى الأن، غير أنه علق قائلا "أن وزير الخارجية محمد جواد ظريف يقف فى طليعة المعركة ضد الولايات المتحدة، وسط أنباء عن تشاورات لإثناء الوزير عن الإستقالة. غير أن نواب وشخصيات اصلاحية طالبت الوزير المستقبل بالتراجع عن القرار فى خلال الظروف التى تمر بها إيران، ووقع أكثرية النواب في البرلمان الإيراني، اليوم الثلاثاء، عريضة قدمت إلى روحاني تطالب فيها بإبقاء جواد ظريف وزيرا للخارجية الإيرانية. وكتب مدير مكتب روحانى على تويتر تغريدة "روحانى يرى أن إيران لها سياسة خارجية واحدة ووزير خارجية واحد" ما يشير إلى تمسك روحانى حتى هذه الساعات بالوزير المستقيل، ويرجح أيضا أن يدخل المرشد الأعلى الذى يركد على ضرورة التماسك ونبذ الخلافات بين المسئولين لإثناءه عن الاستقال.
المرشحون الأبرز لخلافته
روحانى وبشار الاسد
ووسط اصرار ظريف بالرحيل وتسليم الخارجية، أظهرت تكهنات تداولتها الأوساك الاعلامية الإيرانية، تشير إلى أن عباس عراقجي المساعد السياسى لوزير الخارجية الإيرانى هو الأبرز من بين المرشحين المحتملين لتولى لتولى حقيقة الخارجية بشكل مؤقت، والذى تولى منصب مساعد الوزير للشئون السياسية لمدة 5 سنوات وكان بمثابة يد ظريف اليمنى وكان أحد أعضاء الفريق النووى الإيرانى، وهو الأن فى مباحثات بالعراق. ومن بين الشخصيات المحتملة لتولى وزراة الخارجية الإيرانية أيضا حسين أمير عبد اللهيان، الذى يتولى منصب مساعد رئيس البرلمان للشؤون الدولية، ونائب وزير الخارجية الإيراني السابق للشؤون العربية والأفريقية.