من أخطر ما يواجه منظومة الأخلاق فى زماننا- وهو ما لم يكن يتصوره العقلاء- زنى المحارم الذى انتشر فى زماننا بشكل كبير مع الأسف الشديد، والأدهى والأمرّ أن بعض فاعليه لا يشعرون بفداحة ما يفعلون، بل يعتبرونه كأنه شىء عادى وحق مكتسب ما دام الطرف الآخر يقبله ولا يرفضه! وكأن جرم الزنى يقتصر على حال الغصب عليه، مع أن جريمة الزنى التى نزل فيها الحد، وعدها الشرع من أقبح الكبائر، لم يُشترط فيها غصب، بل هى كبيرة شديدة الاستقباح كيفما وقعت، سواء مع الرضا أو الغصب، وإن كان الغصب أقبح بطبيعة الحال.
وزنى المحارم هو الأقبح على الإطلاق بين جرائم الزنى، وقد اختلفت كلمة الفقهاء حول عقوبة فاعله؛ حيث يرى جمهورهم أن الفاعل يعاقب بالعقوبات المقررة لجريمة الزنى، وهى رجم المحصن وجلد غير المحصن، فى حين يرى بعض الفقهاء، ومنهم ابن حزم الظاهرى، والحنابلة فى رواية، أن زنى المحارم يختلف فى عقوبته عن الزنى بين غير المحارم؛ حيث يجعلون عقوبة زنى المحارم قتل الطرفين من دون نظر إلى إحصان الفاعل من عدمه، وقتل الفاعل عندئذ يكون كقتل غيره من مرتكبى الجرائم المهدرة للدم وليس بالرجم، ويستدلون على ذلك بما رُوى عن البراء بن عازب قال: «رأيت عمى ومعه راية، فقلت: إلى أين تذهب؟ فقال: أرسلنى رسول الله إلى رجل أعرس بامرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله»، وقد استنبطوا من هذا الحديث عدم التفريق بين المحصن وغير المحصن فى جريمة زنى المحارم؛ لأن القتل كان بالسيف، فتبين أن جريمة زنى المحارم لا تجرى على قاعدة عقوبات الزنى بين غير المحارم، ولا يخفى أن هذا الحديث الوارد فى الزانى بزوجة أبيه لا يختص بها، بل إن مَن زنى بأمه أو أخته أو غيرهما من محارمه أحق به.
وللفقهاء تفصيل فى بيان نوع قتل الفاعل فى هذه الحال، هل هو قتل حد أو قتل كفر، والراجح أنه قتل حد، ولا يكفر فاعله إلا إذا فعل ذلك مستحلًّا له؛ لأنه عندئذ يكون معارضًا لشرع الله ومنكرًا لمعلوم من الدين بالضرورة، وهو تحريم المحارم بعضهم على بعض بعقد أو من دون عقد، فلم يفرق الفقهاء بين كون زنى المحارم واقعًا فى ظل عقد زواج أو من دونه؛ لأن عقد النكاح فى هذه الحال باطل لم ينعقد أصلًا، بل إن فعل ذلك بعد عقد أشد قبحًا؛ لكونه جمع إلى تحريم الفعل تحريم الإقدام على عقد محرم بنص قطعى فى كتاب الله؛ حيث يقول تعالى: «وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم»، وفى ذلك يقول ابن القيم: «فوالله ما رضى له بحد الزانى حتى حكم عليه بضرب العنق وأخذ المال، وهذا هو الحق المحض؛ فإن جريمته أعظم من جريمة مَن زنى بامرأة أبيه من غير عقد، فإن هذا ارتكب محظورًا واحدًا، والعاقد عليها ضم إلى جريمة الوطء جريمة العقد الذى حرمه الله، فانتهك حرمة شرعه بالعقد، وحرمة أمه بالوطء»!
ويدرك العقل السليم الحكمة من هذا التفريق بين زنى المحارم وغيره؛ فجريمة الزنى بين غير المحارم يقع الفعل فيها من دون المسوغ الشرعى المتمثل فى عقد النكاح الذى لو وقع الفعل تحت مظلته لكان عبادة ولم يكن كبيرة من الكبائر، أما زنى المحارم فهو أشد قبحًا- وإن كان الفعل مماثلًا للفعل فى غيره- وذلك لأن العقد لا يحله؛ فمعلوم أن الزواج ممتنع بين المحارم، بالإضافة إلى أن الطباع السليمة تنفر منه، ولا تقوى على مجرد التفكير فيه، فضلًا عن فعله، بخلاف الزنى الواقع بين غير المحارم، فإن النفس البشرية ربما تشتهيه ولكنها تمتنع عنه تجنبًا للحرام، ومن المعلوم أن الفعل كلما زاد قبحه العقلى ناسبه زيادة العقوبة عن مماثله الأدنى قبحًا، وهذا هو سبب التفريق بين عقوبة المحصن وغير المحصن فى الزنى بين غير المحارم.
وقد أحسن المشرعون القانونيون حين جعلوا الإعدام عقوبة المغتصب من دون نظر إلى الإحصان؛ لما فى الغصب على الزنى من زيادة قبح؛ حيث إنه يجمع إلى قبح الفعل قبح استخدام القوة التى تخرجه عن دائرة العقوبة المقررة فى حال الرضا، وقد أحسنوا مرة أخرى حين جعلوا العقوبة كذلك إذا كان المغتصبون جماعة وليس شخصًا واحدًا؛ فتعميم العقوبة على المشتركين فى جريمة واحدة مبدأ شرعى له تطبيقات فى تراثنا الفقهى، فلو اشترك جماعة فى قتل رجل واحد قُتلوا به جميعًا، كما فعل سيدنا على بن أبى طالب حين قُتل رجل باليمن واتُّهم فى قتله جماعة، فلما سألهم قالوا: كلنا قتلناه. قال: كلكم قتلتموه؟ قالوا: نعم. فأمر بقتلهم جميعًا وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به». ومن ثم، فإنه إذا كان القتل جزاء المغتصب واحدًا كان أو أكثر، ولو كان بين غير المحارم؛ فإن جعله عقوبة للزانى بمحرم أوجب، ولا فرق فى ذلك بين كون الزنى غصبًا أو بالتراضى؛ لكون الجريمة فى ذاتها فى أعلى درجات الاستقباح، فضلًا عن وجود دليلها الخاص من السنة النبوية المطهرة.
وإذا كنا فى إطار البحث عن حل يمكن تطبيقه فى ظل التشريعات المعمول بها، فإننى أرى مجتهدًا أنه من المناسب جدًّا تعديل التشريع لتكون عقوبة زنى المحارم كعقوبة المغتصب، وهى إعدام فاعله سواء كان ذلك برضا الطرف الآخر أو غصبًا، أو كان فى ظل عقد أو من دونه، ولا سيما أن تشديد عقوبة الاغتصاب، من وجهة نظرى، كان له تأثيره البالغ فى الردع؛ حيث إن جرائم الاغتصاب أقل كثيرًا عن حالات الزنى الرضائى، وما ذاك إلا لقوة الجزاء الرادع عن الفعل فى حال الاغتصاب، وإذا كان هذا العلاج التشريعى ضروريًّا للحد من هذه الجريمة النكراء؛ فإن علاجًا أهم يجب أن يركز عليه العلماء، وهو تبنى مواجهة هذه الظاهرة فى البرامج الدعوية ببيان فداحة هذا الجرم ومخاطره فى الدنيا والآخرة، كما يلزم أن تتضافر جهود الكتاب وعلماء النفس والاجتماع وأهل الفن وخبراء المناهج، لوضع رؤية شاملة تعالج هذه الظاهرة التى لا تناسب أى مجتمع، ولا سيما المجتمعات التى تتبع ديانات سماوية وشرائع واضحة المعالم، وفى مقدمتها ديننا الإسلامى وشريعته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة