لم أكن أُحب أم كلثوم حتى بلغتُ العشرين، ولاحقا أيقنت أنها تعويذة لم يُنشئها مُنشئ التعاويذ الأعلى لمن لم تنضج قلوبهم وأرواحهم بعد، مَن لم يسبكهم تنّور التجربة، فلم يُجربوا الفتنة ولم يُجرّبهم السحر، فظل الغبار على زجاج عيونهم، ولما يقعوا بعد على شىء من فيوض الله المخبوءة فى الهزائم المُنضِجة، والانكسارات المُربّية، وشيخوخة الأرواح كانبعاث جديد فى زواج السماء بالأرض.
أم كلثوم ليست مطربة، لا يجوز اختزالها فى حنجرة ومصفوفة من الأحبال الصوتية، ربما يكون الأوقع اعتبارها تهجئة ممتدة فى الزمن لميراث الوجدان العربى، وحالات شعوره الموزعة بين التقييد والانفلات، كأنها الموجة التى تلوح فى البعيد، كارتجاج عاصف للماء فى دورق زجاجى مُحكم الإغلاق، فى ظاهره ارتواء، وفى جوهره ظمأ لا يحدّه ماء، وعلى الشطّ نُثار من سِيَر الصيادين والغرقى والأسماك، وحكاية مفتوحة على مصارين البحر.
اليوم تدور الساعة دورتها الكاملة، وتكتمل 44 سنة على ارتداد الموجة، على قبض الصوت، على مزاوجة الماء للعطش، وما زال البحر عاصفا والصدى صادحا والنهر يجرى لمستقرّ له، يكبر السمّاعون ويشيبون ويُبعثون رمادا وطينا، والسيدة الربّة على عرشها، تتبدل عليها الحكايات ولا تسجنها حكاية أو يؤطرها حكّاء.
وفق معهود الدراما، ومطروق السبك والتدشين، كلّلت العادية رأس الستّ - تماما كما اعتاد الاستثنائيون - فجاءت على مثال أبلاه الاستهلاك، طفلة فقيرة لأسرة ريفية، لم تكن فارعة القامة، ولا منحوتة القوام، ولا بارعة الجمال، فاطمة إبراهيم البلتاجى وحسب، ابنة المنشد ومؤذن القرية، ولو أتعب كُتّاب سيناريوهات الحياة أقلامهم، ربّما صادفوا ألف نموذج مطابق، بفقر وعوز طَبَعَا آلاف البيوت ووشَّيَا ملامح ناسها، وبتسرية ليلية بالإنشاد والغناء وقصائد التصوف، وبقوام وسيط بين الطول والقصر، وبين الامتلاء والاعتدال، وملامح أكرمها النحّات فكانت موفورة التشكل، ممتلئة ومتزاحمة، ربما كانت مُتقنة فى أحاديّاتها، لكنها لا تجيد الائتلاف ونسقَ الجوار وحُسنه وفق ما استقر فى كتاب الجمال. هى الأنثى العارية من كل عَرَضىّ وطارئ، من كل مظهر لامع ومناط نظر، فبعينين جاحظتين ككرتين بلاستيكيّتين فى كأسين مترعتين بالماء، ومنخار واسع كقربة على أهبّة الانفجار، وبوجنتين بارزتين تنحدران بحدّة إلى واد ذى فم كحافة بئر دارس، تدانيه ذقن بارزة وعنيفة الدوران، خلّص النحات تمثاله المنذور للفعل فى الروح لا النظر من كلّ ما يعوق الرسول عن رسالته، ويسرق من بهاء الصوت بأبهاء الصورة، ولعلّه وضع خلاصة طاقته، وخام تعريفه واقتداره على الجمال، فى تشكيل الحنجرة وتندية أحبالها الصوتية، ومسحها بالسحر والموسيقى وماء السماء وعسلها، فجاءت كوكب الشرق كوكبًا دُرّيًّا، ومشكاة فيها حنجرة، الحنجرة فى زجاجة، الزجاجة كأنها منتهى الإعجاز ومآل المقتدرين، والإعجاز والمآل يضيئان ولو لم تمسسهما نار، إذ تكفى حنجرة «أم كلثوم».
بين طماى الزهايرة بالدقهلية (مولدا مُختَلَفا فيه بتاريخين متباينين: 31 ديسمبر 1898، و4 مايو 1906)، وحى الزمالك بالقاهرة (وفاة لا خلاف فيها، 3 فبراير 1975)، عاشت الفاطمة أم كلثوم سبعًا وسبعين سنة، أو خمسًا وستين، عبرت ما لم يعبره عتاة السيّارين والرُّحّل من صروف وعوارض الأيام، وأتت ما لم يأته الأوائل من أبناء الله الاستثنائيين والمبدعين، وبينما ألقت الستّ محصول أَلَقِها وحصادَ إبداعها فى 6 أفلام سينمائية، و306 أغنيات فقط، متأخرة عن طوابير من آباء وصنّاع الموسيقى والتمثيل والغناء من أسلافها ولاحقيها، ظلّت فى معارج لا تدانيها الحناجر، بصوت فاره وباذخ المقدرة والعطايا، منحوت كأنه مُتعيّن مادى يملأ العين ولا تحيطه، وأثيرى كأنه الهواء، رحم للبدن وجنين فى الصدر، وثرىّ مُزركش كأنه جوقة من المُغنّين يصدحون لحنًا واحدًا، «بولوفونيًّا» متجاور الخطوط والمساحات، فكأنك فى حضرة الحنجرة النورانية الكلثومية، على مرأى ومسمع من جهاز الصوت المعيارى الذى يقيس الله عليه الأصوات، ويوزّع حصصا وأرزاق الناس منها.
يُخطئ كثيرون ممن يقربون قُدس فلاحة «طماى الزهايرة»، وهم يختزلون الطين فى السنبلة، والحقل فى المارّة، والزُرّاع فى الآكلين، فيُهندمون حكاياتهم عن «أم كلثوم» ويعيدونها كما يحكون عن حبيباتهم أو توهمّاتهم الذاتية، مُلخّصين النهر فى شَربة منه، تماما كما نسجن الله فى اللغة، فى اسمه المُحرّف بالحروف، فى تصوراتنا الساذجة عن إطلاقه العلىّ، انحيازا لماكينة استيعابنا البسيطة المسطحة.. من قال: إن «أم كلثوم» هى ابنة إبراهيم البلتاجى التى درجت فى مرابع الإنشاد، ثم تبدلت بين أبى العلا محمد فصبرى النجريدى والسنباطى والقصبجى وبليغ، وسبكتها صحبة رامى أو مسامرة أحمد شوقى أو التريض فى فناء محمد عبد الوهاب، هكذا نتورط فى تعريف الشجرة ببعض ثمرها، والأصل أن يعود الفرع للأصل.. أم كلثوم شيطانة، خبزتها النبوءة فى تنّور الود، قبل أن يردها أصلها النارى إلى قدسيتها المخبوءة بين نغم ودم. شيطانة سنيّة طاهرة، تخمش ماء الروح وتُوطِّن أظافر حنجرتها فى وجه القلب، فعليها السلام رغم قسوتها، ولنا الرحمة والمغفرة رغم تردّد أنفاسنا فى الصدور.
لا تكمن عبقرية «أم كلثوم» وتفردها فى حنجرة طليقة كعنان على عنق مُهرة حرون، وقماشة صوت تقطعت سُبل الوفاق بين أهل العلم فى فرز لُحمتها عن سُداها، فقالوا إنها تمتد ديوانين كاملين «الديوان بالعربية هو الأوكتاف فى علوم الموسيقى الغربية، والديوانان ستة عشر مقاما موسيقيا»، وقال آخرون إنها فى فترة عنفوانها وانفلات صوتها من كل عقال، حتى الخبرة، خلال عشرينيات القرن الماضى، ارتقت السُلّم الشاهق إلى جواب الجواب فى نغمة السيكا، دون عناء أو ادعاء، أى وصل صوتها إلى سبعة عشر مقاما، ولا الحقيقة القاطعة بالأجهزة والقياسات الحديثة بوصولها إلى 3.6 أوكتاف فى بعض مواضع رائعتها «وحقك أنت المنى والطلب» التى أنشدتها بلحن معلمها الأول أبى العلا محمد فى 1926، ولا وصولها فى بعض الأحواز الإعجازية إلى 4 أوكتافات كاملة.. كل هذا ليس سر عبقرية ربة السحر، هناك ما هو أكبر.
إن شئت أن نفتح كتاب الإعجاز فى ظاهره الفيزيائى، فإليك أيضا من معجزات الست، أن صوتها يمتد على قسمين من أقسام ثلاثة لأصوات النساء «كونترالتو» و«ميتسو سوبرانو»، ولكنها فى كثير من تجلياتها تصل إلى مقام يقع وسط مساحة «رى بيمول»، وهى طبقة «الباريتون» التى تتوسط «الباص» و«التينور» فى أصوات الرجال، فعلتها فى تسجيل «يا ظالمنى» من حفل فندق «كابيتول» فى بيروت 1954، متنقلة بين «الباريتون» و«الكونترالتو»، يُضاف لهذا أنها النموذج الأقوى، وربما الأوحد على تحدّى الزمن وقوانين الطبيعة، إذ بدأت الغناء بصيغة شبه احترافية فى الخامسة عشرة من عمرها 1913، واختتمت رحلتها على المسارح فى الخامسة والسبعين 1973، قبل ارتقائها بعامين، وهى بذلك النموذج الأوحد فى كل العالم الذى أكمل ستة عقود من الغناء، وفى تلك الرحلة العريضة كانت عوارض الزمن وآثاره على حنجرتها أقل وطأة مما فعلته مع غيرها، ومما يُفترض أن تفعله مع بنى آدم على إطلاقهم، فحتى شدوها الأخير كانت «أم كلثوم» الجبارة القادرة على سياسة المقامات والأنغام، من القرار فى مستوى «الباريتون» إلى جواب الجواب فى «السيكا» وفى طبقة «الكونترالتو»، بشىء طفيف من التراجع، قد لا يلحظه العاديون وغير المختصين.
إن تجاوزنا العادى فى التماس الإعجاز فى مسار «أم كلثوم» غير العادى، فلن نتوقف طويلا أمام حيزها الصوتى، واختزانها لمساحة عريضة تربط أصوات الرجال بالنساء، كأننا أمام حنجرة تأخذ شكل ملك مصر القديم «أخناتون» بهيئة موزعة بين الذكورة والأنوثة، كأنها الكمال المطلق والتمام الذى لا يخالطه نقص ولا يعوزه شريك، ولن نقف أيضا أمام قدرتها المبهرة على الإمساك بلجام هذه الحنجرة العفية، وسياستها المقتدرة بين الحالات والمقامات والنغم، ولا قدرتها الفذة على الغناء لأربع ساعات متصلة، ولا قوة صوتها التى رأى الناس تجليها فى علاقة خصام نسبى جمعتها بالميكروفون، بينما فى العميق كان شاهدها الأكثر إدهاشا أنها تعتمد فى غنائها على الحنجرة، لا وفق التقنية العلمية فى الغناء، التى تستند إلى توظيف الحجاب الحاجز «Diaphragm» فى ضغط الهواء الصاعد نقلا إلى الأحبال الصوتية بمقدار مرتين ونصف المرة من الضغط الجوى، بدلا من الضغط المباشر على الحنجرة، وهى الطريقة التى كانت تقول بها «الست»، بصورة تُضاعف حجم الضغط على الجهاز التنفسى والصوتى بشكل مرعب وقاس جدا، لكنها كانت تسير وسط هذه الغابة من الحمولات المضنية كأنها فراشة، بينما كانت تحمل حنجرة كأنها جبل عظيم من التجاويف والأحبال.
كان صوت «أم كلثوم» غنيا بإسراف، بإسراف شديد فعلا، يحوز أجمل ما فى أصوات النساء، مجدولا بما تفتقر إليه حناجر النساء وتكنزه حناجر الرجال، فكانت تملك قرارا يندر أن تجده فى آلة صوت نسائية، وقدرة على ابتداع الحليات والزخارف بشكل يُعجز حتى الآلات الطيّعة، يتجاور هذا مع مسار إعداد ربما رتبته المقادير، من الإنشاد الدينى لموسيقى أبى العلا محمد، عبّأ روحها أولا بالسيكا والبياتى والرست والصبا «المقامات الشرقية المشتملة على ثلاثة أرباع النغمة»، لتنداح فى ثنايا صوتها ولو ترنّمت خارجها، ثم هذّب شيئا من الحدّة والانفلات والرنين المعدنى الذى ظهر فى صوتها مع العشرينيات، لتصل مع الأربعينيات إلى المساحة الكلثومية الخالصة، الصوت الفريد العريض القوى، الحاد فى اتزان، واللين الطيّع فى قوة وصرامة، بينما اشتغلت القوة العليّة التى تدير موهبتها السامقة، وربما كانت تلك القوة فى رأس «أم كلثوم» نفسها أو فى سماء من طبقات السماوات السبع، على مزج وعى المنشد بروح المطربة، الصوفى بالحسّى، مراقصة الذات للموضوع دون التحام أو انفصال، غناء الحكاية والسرد الشهرزادى بثراء التطريب والتجاوب والإعادة والتكرار، هكذا فى نسيج عضوى ألّفت فيه «الست» بين كل شىء وأى شىء، بين عقالها القديم ومنديلها الحديث، البطانة والأوركسترا، الوجد الإلهى والنزوع الدنيوى.. تسمع وكأنك ترى، وترى وكأنك تلمس، وتلمس وكأنك تشارك فى الفعل، ورغما عنك تتورط برغبة «كلثومية» فى إنتاج السياق، أنت السمّيع وقتها على القرب، والسامع الآن على البعد، شريك مباشر فى الأمر، فى المعجزة التى تتشكل على عينيك من صوت وصمت، شريك فى إنتاج القصة فى الزمن، وتشكيلها كما يتراءى لك أنت ومنشدك، الذى ينشدك وحدك، وحدك فعلا، حتى لو كنت فى ملأ لا مبتدأ له ولا منتهى.
اليوم تجدد ذاكرة العالم خلاياها وهى تحتفل بذكرى سيدة العالم الجميل، وليس فى طاقة اللغة والوالغين فيها إلا أن يُقبّلوا جبين «الست»، بما تحتمله الكلمات وتكنزه من معانٍ، قُبلة ليست على قدر العلوّ الذى أقطعتها السماء نصيبا عظيما منه، وإنما على قدر توسّل العاشق مقربة المعشوق، وليس ابتغاء الوصل إلا اتصالا.. وفى الأخير، أم كلثوم ليست مطربة، والله ليست مطربة، يشبه هذا أن تقول إن أولياء الله زمرة من الطيبين وحسب، وهم فى الحقيقة أولياء خُلصاء لهم من القدسية حظّ، وهكذا هى «الست»، وليّة وقديسة على سلم الموسيقى.
عبرت الستّ فى رحلتها القدسية المقدّسة على عشاق ومعشوقين، ممّن أحبّوها أو أحبّتهم، أو أحبّوا على أغنياتها، رسولاً للحب وسلوانًا للمحبّين ولوعة لهم فى الآن ذاته، عبرت على طوابير من الشعراء، معاصرين وقدامى، لتكون كتابًا مُصطفى لصنعة الشعر، ومرجعًا يؤرّخ للكلام، كما عبرت على أهم مُلحّنى وموسيقيّى جيلها، رياض السنباطى 103 أغنيات، ومحمد القصبجى 69 أغنية، وزكريا أحمد 63 أغنية، وأحمد صبرى النجريدى 17 أغنية، وبليغ حمدى 11 أغنية، ومحمد عبدالوهاب 10 أغنيات، وأبو العلا محمد 9 أغنيات، وأغنية لكل من عبده الحامولى وأبو العلا محمد وفريد غصن، ولحّنت لنفسها أغنيتين.
فى رحلة الستّ ستجد ما لا عين رأت، فهى من ربات الآذان وقديسات الحناجر والأوتار، وإن كانت قد أنشدتنا من روح الصوفى القطب عمر الخيام، وبترجمة أحمد رامى: فما أطال النوم عُمرًا ولا قصّر فى الأعمار طول السهر، فإنى أكاد الآن- وبعد أربع وأربعين سنة على الرحيل- أسمعها تنشد بشموخها المعهود، بقليل من التصرف: فما أقال الموت صوتًا ولا نالت من الذكرى عقود السفر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة