عندما نتحدث عن قضية فساد واحدة قيمة الرشاوى فيها 500 مليون جنيه، فى محافظة واحدة وبين ثلاث مسؤولين، فإننا أمام واحدة من أضخم قضايا الرشوة، ومع هذا فإنها ليست الوحيدة ويمكن تصور وجود رشاوى أخرى مرت، من دون رقابة، ويمكننا تخيل حجم المليارات التى ضاعت من مال الشعب مقابل مليارات من الرشاوى، المصلحة هنا تتجاوز عشرين ضعف المبالغ المدفوعة.
قد نكون أمام أكبر قضايا الفساد التى ضبطتها الرقابة الإدارية وتتضمن كلا من السكرتير العام والسكرتير العام المساعد ومدير إدارة الشؤون القانونية السابقين بمحافظة مرسى مطروح، على خلفية اتهامهم فى عدة جرائم تتعلق بتسهيل الاستيلاء على المال العام ورشاوى قيمتها 500 مليون جنيه، وهى القضية المتداولة أمام جهات التحقيق، وهذا المبلغ أضاع عشرين، وربما ثلاثين مليارا من المال العام، فى صورة أراضٍ ومصالح أخرى، بما يعنى أن الشعب يربط الحزام، ويتحمل آلام الإصلاح الاقتصادى، ويأتى فاسد واحد ليحصل على نصيب ملايين المواطنين.
يستحق رجال الرقابة الإدارية الشكر على هذا الجهد المتواصل، خاصة إذا علمنا أن القضية الأخيرة تم ضبطها بعد خروج المسؤولين المتهمين بالرشوة، بما يعنى أن هناك تفتيشا مستمرا خلف الصفقات، وفى نفس السياق فإن هيئة الرقابة الإدارية خلال الشهور الأخيرة أسقطت عددا من رؤساء الأحياء والمدن برشاوى كبيرة، كان أقربها رئيس حى مصر القديمة الذى سقط متلبسا برشوة أكثر من مليون جنيه، ورؤساء أحياء الهرم والدقى والتجمع الخامس وحى المستثمرين بالرحاب وروض الفرج، السابقين وأيضا نائبة محافظ الإسكندرية التى صدر حكم عليها بالسجن 12 سنة، ومحافظ المنوفية المسجون بعد إدانته بالرشوة حقق 50 مليون جنيه فى عام واحد.
نحن أمام فساد منهجى، تطارده الرقابة الإدارية، ولا يمكن القول، إن كل الفاسدين يسقطون، بل ربما كانت أغلبية الحالات تهرب بفسادها. وإذا كنا نتحدث عن حالات كلها فى المحليات، وأغلبها حول المحليات فى التموين أو الدعم، نحن أمام واقع يتطلب بالفعل مع عمل الرقابة الكثير من التحرك التشريعى لضبط الإدارة، وإعادة الاعتبار للحكم المحلى الشعبى، لأن المجالس الشعبية فى حال تمت بشكل ديمقراطى يمكن أن تسفر عن مجالس تراقب وتتابع، وتحسم عمليات التعاقد والتصرف فيما يتعلق بالمال العام.
ومهما كانت تحركات الرقابة، فإن ثغرات القانون ونظام الإدارة واضح أنه يفتح الباب للفساد، طالما كان المسؤول قابلا للفساد، وضربنا مثلا بمحافظ المنوفية السابق الذى حصل على 50 مليون جنيه فى عام واحد، وكم حالة يمكن أن تكون مثل هذا المحافظ الذى سقط ببلاغ من زوجته السابقة.
وأمامنا قضية الفساد بين مسؤولى محافظة مطروح السابقين، ثلاثة موظفين سهلوا بيع أراضى الدولة بأسعار منخفضة مقابل رشوة 500 مليون جنيه، واستغل السكرتير العام ومساعده «تستيف» الملف وحصل مدير الشؤون القانونية على ثغرات قانونية تمنع اكتشاف الفساد فى الأوراق الرسمية، مع عملية تزوير للأوراق والمستندات والعقود، ومع فارق الرشوة فإن القضايا التى ضبطتها الرقابة الإدارية خلال شهور ضبطت عشرات القضايا تتراوح الرشاوى فيها ما بين 100 ألف وملايين، وتمتد من مطروح إلى أسوان.
قلنا مرات إن الكثير من قضايا الفساد يسقط فيها المرتشون بناء على بلاغات، وهناك نسبة لا بأس بها تمر، وهذا ليس لنقص فى جهود الرقابة وإنما فى اتساع دوائر الفساد فى المحليات، وبعضها يستمر والمخالفات مستمرة فى أحياء القاهرة والإسكندرية والمحافظات المختلفة، وأهم أسباب الفساد السلطة المطلقة لرؤساء الأحياء والإدارات الهندسية، واستمرار الإجراءات المعقدة التى تجعل المسؤول فوق أى مساءلة أو قانون، لدرجة أن الملتزمين أحيانا يواجهون عراقيل، ومن يدفع يمر، وبعض من يلتزمون بالقانون يضطرون للتعامل من أجل عبور العراقيل.
والحل فى تعديل القانون، بحيث تكون هناك مسارات واضحة للتصاريح والتراخيص، مع وجود جهات أخرى تراقب قرارات الجهات المختلفة، ويمكن للمواطن أن يلجأ إليها لحل مشكلاته أو التظلم من القرارات المتعسفة.
وفى النهاية فإن إصلاح قوانين المحليات، ومنح سلطات للمجالس الشعبية المحلية، وإعادة النظر فى صلاحيات الإدارات الهندسية، وتوزيع السلطات إلى الجهات الأعلى، كلها تحاصر الفساد الذى أصبح خارج نطاق العقل والمنطق.