الكبر عبر، ومن العبر ما يؤلم ، أو يصحح مسار ، ما بين الوهن وقلة الحيلة، مفردات ترافق أمهات كثر، ربما ترى وجوههم بين المارة ، يحملون عليها تفاصيل سنين عجاف عاشوها، بين السعى على الرزق، والطمع فى الستر والصحة، وكلما اقتربت الأعياد تراهم يعبرون الأيام بذكرى قد تفرحهم، أو هدية من ابن وابنه تكون بمثابة رمز للحب، ومن حرمه الله من الأبناء يقعد ملوما محسورا، ينعى حظه العثر على فقدان نعمة الأبناء، لكن بين كل الأمهات والآباء كثيرون حرموا من أبناؤهم وهم على قيد الحياة، وباتت الوحدة هى الأنيس الوحيد لهم .
من بين وجوه المارة فى مدينة العاشر من رمضان ، وبالتحديد عند موقف الأردنية، كانت السيدة العجوز ذات الرداء الأسود تمر ويعرفها الجميع من أصحاب المحلات، تتكئ يسارا عند هذا الخضرى فيمنحها قليلا من الخضروات، وآخر يراها تقترب منه فيمنحها بعض الخبز تاركا لها الجنيهين التى تعطيهم له ثمنا للخبز.
صاحبة الرداء الأسود ليست متسوله تسأل المارين، وليست عجوز تهزى بالكلمات، أنما تمتلك من الحكمة فى الحوار ما يجعلك تستمع إليها بإعجاب، تحمل كلماتها مرارة العمر الذى مر هباء، على تربية أبناؤها، الذين يعيشون فى منازلهم مع أزواجهم وزوجاتهم، وتأخذهم ساقية الحياة وينسون أن هناك من تشتاق إليهم، من تعيد بسمتها على يد صغارها من الأحفاد، قد تمر الأشهر تلو الأشهر، فتشتاق روحها للقائهم، وتلتمس لهم العذر، فتجمع مالديها من بعض الحلوى وقليل من الفاكهة، وتذهب إليهم فى زيارة لا تتجاوز اليومان، وترحل بعيدا عنهم دون وداع فقط لأنها أحست أنها حمل عليهم.
لم تكن أم رضا مجرد سيدة أفترشت الرصيف بالقرب من صندوق قمامة فى شارع عام قريب من موقف الأتوبيسات يمر عليه القاصى والدانى، وأنما حين تراها وهى تقلب الصندوق باحثة عن بعض عبوات الكنز الفارغة، وبعض زجاجات المياة البلاستيك، تظن للوهلة الأولى وأنت تراها أنها ربما جائعة تبحث عن طعام.
اليوم السابع أقترب منها واستمع لحكاياتها، هى حكاية أقرب للأفلام العربى القديمة، لكنها مشهد متكرر فى الواقع، فهى ابنه فران فى قرى بلبيس، تعودت على الشقى والعمل منذ صغرها، فكانت دوما تساعد أبيها فى العمل فى الفرن، وتحمل أرغفة الخبز وتسلمها لمن حولهم، تلعب وتلهو وتقفز فوق الدراجات فرحة بحيويتها وشبابها، حتى تزوجت وانجبت ثلاثة بنات وولد، وتزوجوا وساعدت زوجها فى المعيشة، حتى مات الزوج تاركا فى رقبتها الحمل، ووصية وكلمة وداع" خدى بالك من نفسك ، أنا خايف عليكى قوى".
لم تكن وصية زوج أم رضا مجرد كلمات فى لحظة وداع بقدر ما كانت قراءة للواقع الذى ستلاقية زوجته من بعده، فأبناؤها كل اتجه لحياته وتركوها وحيدة دون ونيس أو أحد يخدمها، فقررت أن تترك البلده وتأتى للعيش بمفردها فى مدينة العاشر من رمضان، تستيقظ فى الصباح ، تجوب المدينة شمالا ويسارا باحثة فى صناديق القمامة تجمع المخلفات الصلبة لتبيعها، بدلا من السؤال، وبثمنها تأتى ببعض الأكل الذى قد يكفيها يومين أو أكثر، لتعاود الكارة، وحين تشتاق لرؤية أبناؤها وأحفادها، تقرر أن تقطع مسافة 60 كيلو لبلدتها تراهم وسرعان ما تعود قائلة "البنى آدام ثقيل، ومحدش بيستحمل حد".
سألتها، عن عمرها فأجابت خمسة وستون عاما من الشقا والقهر، وعن عيد الأم بحسرة وألم، طول عمرى محدش افتكر حتى يقولى شكرا، وأستطردت أم رضا فى الحكى، اللى ماخلفوش مايزعلوش، العيال لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تزل.