ليس هناك ما هو أبلغ فى التعبير عن الكراهية سوى الإنكار، التجاهل، الإقصاء، الاستبعاد، فانظر إلى شوارعنا وبيوتنا ومياديننا، لتعرف كم يبلغ مدى كرهنا للثقافة التى قطعنا يدها من كل مكان، واجتثثنا جذورها من كل تربة حتى أصبحت حياتنا خالية من كل ذوق، صماء عن كل بوح.
قطعنا يد الثقافة كما لو كانت سارقة مارقة زنديقة فاسقة، لم ننتبه إلى أننا نعبر عن احتقارنا لأنفسنا حينما عبرنا عن احتقارنا للثقافة، فثقافتك هى أنت، وذوقك هو أنت، وبيتك هو أنت، وشارعك هو أنت، ومدرستك هى أنت، بيئة عملك هى أنت، وإذا كان كل ما حولك منحط ووضيع، فلماذا تستبعد نفسك من الاتصاف بهذه الصفات.
كلام قاسٍ، نعم، ومر أيضًا، لكنه حقيقى خالص، انظر إلى حياتك بعينك، أو انظر إليها بعين الآخرين، لتعرف كم أطلنا مدة المكوث فى الغياب، فى الأحياء والمحافظات والمدن لا يوجد شىء يسمى «ثقافة»، لا يوجد شىء يسمى «فن»، كل ما فى العين جفاف، كل ما فى الذهن قبح.
قديمًا لم نكن فى احتياج إلى وزارة تسمى بوزارة الثقافة، لماذا؟ لأن الثقافة وقتها كانت مسؤولية وطنية، يتبناها الوطن كله، كان المحافظ مثقفًا، وكان الطبيب مثقفًا، وكان المحامى مثقفًا، وكان العامل مثقفًا، الكل يعمل، الكل يقرأ، الكل يستمتع بالفن والموسيقى، الكل يعيش حياته مدركًا لذاته، منتميًا لبلاده وتاريخها وحضارتها، ثم أنشأنا وزارة للثقافة حينما أردنا تنظيم كل شىء، وتقنين كل شىء، ومراقبة كل خطاب، لكن للأسف فى الوقت الذى أنشأنا فيه هذه الوزارة قطعنا عنها مواردها، وشيئا فشيئا صارت صفرًا كبيرًا فى معادلة التأثير، ميزانيتها بالكاد تنفق على موظفيها، وموظفوها الذين انضم غالبيتهم إلى العمل فى الحكومة ليسوا أكثر من «موظفين»، نادرًا ما تجد بينهم مبتكرًا أو حالمًا أو حتى مجتهدًا مخططًا، اختفى المثقف صاحب الرسالة، وانتشر الموظف طالب العلاوة، كل شىء صار بلا شغف، كل حلم صار ترفًا، كل أمل فى غد جميل صار «كلام أغانى»، اختفى الإيمان بالعمل وظهر الكفر بالفن، فلا تتعجب إن رأيت ما نرى.