بالرغم من كل الجهود والوعود التى يطلقها أصحاب ومدراء مواقع التواصل، خاصة فيس بوك، بالتزام احترام الخصوصية، ومواجهة الأخبار المزيفة والمضللة، والشائعات، فإن هذه الوعود تصطدم بطبيعة هذه المواقع فى الأساس، التى تقوم على مضاعفة أعداد المستخدمين وجذب المزيد من الناس للبقاء فترات أطول على هذه المواقع. ثم إن المواد الإعلانية والدعاية المدفوعة أصبحت تمثل النسبة الأكبر من بضاعة هذه المواقع.
يضاف إلى ذلك أن السياسة تحديدًا تمثل أحد أكثر أسباب انتشار الشائعات والأخبار المزيفة وشن هجمات قرصنة متبادلة بين الدول لتصفية حساباتها. وربما لم يكن الكثير من المستخدمين يعرفون حجم تأثير الصراعات السياسية على شبكات التواصل، ما لم تتفجر قضية هذه القضية على خلفية الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
فقد اعترف مارك زوكربيرج بخطأ فيس بوك فى خرق بيانات المستخدمين ومنح معلومات أكثر من 50 مليون مستخدم لصالح شركة «كامبريدج أناليتكا»، لصالح حملة دونالد ترامب الانتخابية. وهى أكبر قضية تخرج للعلن عن التوظيف السياسى لفيس بوك ومواقع التواصل، لكونها خضعت للتحقيق. وعلى خلفية الانتخابات الأمريكية أيضًا اتهمت حملة ترامب الديمقراطيين باستخدام جوجل لصالح هيلارى كلينتون. وقبلها اتهم البريطانيون قراصنة روس باستعمال حسابات فيس بوك للتحكم فى تغيير آراء المواطنين البريطانيين ليصوتوا ضد البقاء فى الاتحاد الأوروبى.
واتهمت الولايات المتحدة، 13 روسيًا بالتلاعب فى الرأى العام الأمريكى وتوجيه الآراء باستعمال مواقع التواصل الاجتماعى مثل فيس بوك وتويتر وإنستجرام. وتحدثت وسائل إعلام هولندية عن وحدة «كوزى بير» الروسية المتخصصة بالتجسس الإلكترونى وهو ما يسميه المسؤولون الروس «روسوفوبيا»، ويتهمون الأمريكيين بالغرق فى نظريات المؤامرة.
وردت روسيا باتهام الولايات المتحدة بتنظيم هجمات على جبهات متعددة، وأعلنت إلى ذلك، وحذر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى اجتماع مجلس الأمن القومى الروسى فى أول مارس من أن استخبارات أجنبية تسعى إلى تكثيف أنشطتها ضد روسيا وتحاول التأثير على الأحداث داخل البلاد داعيًا هيئة الأمن الفيدرالية الروسية لليقظة.
وكشف بوتين أن عدد الهجمات السيبرانية التى تعرضت لها المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى فى البلاد ارتفع ليبلغ 17 ألف هجوم فى عام 2018. ووصف بوتين هذه الهجمات بأنها «تهدف إلى إلحاق ضرر بالمصالح القومية للدولة»، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات وقائية إضافية لحماية البنى التحتية المعلوماتية الحساسة وتطوير النظام الحكومى الخاص برصد الهجمات ومنعها وإزالة عواقبها».
وبالتالى فإن اعترافات مؤسس فيس بوك، والتحقيقات التى تجرى حول توظيف حسابات المستخدمين والتنصت عليهم، وتوجيههم. تقلل من الثقة فى تحليلات تقوم على تفاصيل افتراضية لا تخلو من احتمالات التدخل. بما يعنى وجود فخاخ منصوبة داخل بعض التقارير والأخبار المغسولة التى ربما لا تمثل قواعد يمكن الوثوق فيها لبناء تحليل واقعى.
كما يصعب أحيانًا التفرقة بين خبر حقيقى وشائعة، أو بين بوستات سياسية دعائية مباشرة وأخرى تتم ببراءة وحسن نية. وهى ظاهرة عالمية ولا تتعلق فقط بدول متقدمة وأخرى متخلفة. ولعل مثال البريكست فى بريطانيا، مثال لذلك حيث ظهرت اتهامات بريطانية بحدوث تأثيرات فى الرأى العام البريطانى لتوجيه نتائج الاستفتاء إلى الخروج البريطانى، بما أدى إليه من تداعيات وتعقيد فى مشهد سياسى، انتهى بأزمة يصعب الخروج منها من دون نتائج صعبة على الاقتصاد البريطانى. وقد ظهرت روسيا أيضًا فى خلفية الاتهامات الأوروبية لموسكو بالتدخل السيبرانى.
لقد أبدى مخترع شبكة الإنترنت البريطانى تيم بيرنرز، قلقًا قبل عامين من استخدام اختراعه فى أغراض بعيدة عما كان يهدف إليه، منها فضح الخصوصية الشخصية ونشر المعلومات المضللة والدعاية السياسية المغرضة. وكتب بيرنرز قبل عامين مقالًا فى الجارديان، قال فيه إنه بقدر ما توفره الشبكة العنكبوتية «الويب» من خدمات إيجابية عظيمة لأكثر من 3 مليارات شخص فى العالم، فإنها فى ذات الوقت أصبحت مصدر خطر على المستخدمين، كما أن المعلومات المضللة، غالبًا ما تدفع إلى إجراءات تحد من حرية الأشخاص.
وأشار بيرنرز إلى أنه من السهل للغاية انتشار المعلومات المُضللة على الويب، حيث يحصل معظم الناس على الأخبار والمعلومات على شبكة الإنترنت عبر عدد قليل من الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث. بالإضافة إلى تطوُّر الخوارزميات المتزايد باعتمادها على شلَّالات من البيانات الشخصية يعنى أنَّ الحملات السياسية تُصمم الآن إعلانات مُوجَّهة إلى الأفراد كلٌ حسب تفصيلاته وسلوكه على الإنترنت.
كان مخترع الإنترنت ينبه إلى الخطر المزدوج للسياسة والصراع على المحتوى، وأيضًا تأثيرات ذلك على المستخدمين وتحقيق خداع دعائى يوجه الأشخاص إلى وجهات محددة.
ولم يكن بيرنرز وحده الذى انتبه لذلك، بل أن أعدادًا من علماء الاجتماع نبهوا إلى شيوع التفاهة والاستهداف الشخصى ونشر الشائعات فى الأوساط الاجتماعية بما يؤثر فى نتائج أو يتحكم فى الرأى العام.