قضايا مهمة تصدت لها المنظمة العالمية لخريجى الأزهر الشريف، فى إطار مشروعها للرد على دعاوى وأفكار متطرفة وجماعات متشددة، تلصق نفسها باسم الإسلام والإسلام منها برىء، وتشوه بممارساتها صورته، لتصدر سلسلة كتيبات بعنوان «سلسلة تفنيد الفكر المتطرف» مخصصة للرد على الجماعات الإرهابية، وهى السلسلة التى تصدى لتقديمها الشيخ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى، عضو هيئة كبار العلماء، وكتب فيها أئمة الجامع الأزهر وعلماء جامعته الكبيرة، وأصدرت حتى اليوم 11 كتابا، كل كتيب منها يختص بمعالجة قضية فقهية محددة.
وتحت عنوان «الجهاد فى الإسلام حقيقته وضوابطه» كتب حمد الله حافظ الصفتى، من علماء الأزهر الشريف، مبينا أن موضوع «الجهاد فى الإسلام» من أخطر الموضوعات التى يحصل حولها نوع من التباس المفهوم، وضبابية الرؤية، وزيغ التصوُّر، ومن ثَمَّ ممارسات وتطبيقات خاطئة.
ويشير إلى أنه «استقر فى أذهان كثير من الناس أن الجهاد شرع بعد هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لكن الحقيقة العلمية والتاريخية ليست كذلك، فقد حفل العهد المكى بالجهاد كما حفل به العهد المدنى، وتحدث القرآن المكى عن الجهاد كما تحدث القرآن المدنى»، لافتا إلى أن السبب فى هذا التصور الذى استقر فى أذهان الكثيرين، أنهم حصروا الجهاد فى معناه القتالى، ولا شك أن مقاتلة المشركين شرعت بعد الاستقرار فى المدينة، وهو ما أزال سمة الجهاد عن كثير من أنواعه، بل عن أهم أنواعه.
ويتابع أن أهم أنواع الجهاد، بل المقصود الحقيقى، والمعنى الأساسى له، هو ذاك الذى شرع بمكة، من مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمشركين بدعوتهم إلى الحق، وثباتهم عليه، وصبرهم على الأذى فى سبيل التبصير بكتاب الله تعالى والتعريف به، ومما يؤكد هذه الحقيقة فى معنى الجهاد: قول النبى صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد: أن تجاهد نفسك وهواك فى ذات الله تعالى».
واستطرد أن الجهاد بهذا المعنى الذى استقر فى مكة، هو المصدر الأساسى لما قد تفرع عنه بعد ذلك من أنواع الجهاد، بل هو أشبه بالجذع الثابت من الشجرة فى سائر الظروف والأحوال، بينما بقية الأنواع ومنها النوع القتالى أشبه بالأغصان التى تأتى وتذهب بين الحين والآخر، طبقا للظروف والأسباب، ولكن العجب ممن يحمل الجهاد فقط على معناه القتالى، وإذا ذكر بحديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى ذكرناه، وظَّفه أيضًا للجهاد القتالى، فلم يفهم من كلمة الحق فى الحديث إلا المعنى الزجرى الباعث على التربص والمنازعة والقتال!!
مشروعية الجهاد القتالى
لما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، نشأت ظروف جديدة تتلخص فى أمرين: الأول: نشأة أول مجتمع إسلامى متماسك، ضمن نظام دولة مكتملة الشروط والأركان، من الشعب «المسلمين واليهود»، والدستور «وثيقة المدينة»، والحاكم «الرسول صلى الله عليه وسلم»، والثانى: نشأة أول دار للإسلام، وهى الأرض التى استقر عليها أول دولة للإسلام بمكوناتها المتكاملة، بحيث يمتلك المسلمون فيها السيادة لأنفسهم، ويقدرون على إظهار إسلامهم وشعائرهم، ويمتنعون بها من أعدائهم، واقتضت هذه الظروف قيام المسلمين بواجبات إضافية فى مجال الجهاد، لحماية المكتسبات الجديدة للأمة المسلمة، وهذا اقتضى منهم اتخاذ عدد من الأسباب، بينها تحصين الحدود وحراستها تحسبًا لأى عدوان، والتصدى بالقتال لكل من يتربص بمقومات هذه الدولة، أو جاء معتديا عليها بصورة من الصور، إلى جانب مقاتلة كل من قاوم الدعوة الإسلامية السائرة على منهج التعريف والحوار، وذلك لكونها صارت تحت حماية دولة ورئيس مسؤول عنها، فهو يملك نظاما سليما فى حمايتها وفتح السبل أمامها.
ويقول الدكتور الصفتى: هكذا ظهرت صورة الجهاد القتالى فى المشهد، لكن أهم ما تجب ملاحظته هو أن المعانى التى ذكرناها لم تكن أطوارًا تنقلت شرعة الجهاد خلالها لتستقر عند آخر طور لها، كما هو الشأن فى تحريم الخمر مثلا، وإنما هى عبارة عن شرائع جهادية متعددة، تنفذ كل شريعة منها فى حالاتها وظروفها المناسبة، فالحال التى ينبغى أن يكون الجهاد فيها باللسان، مع الصبر على الأذى، غير الحال التى ينبغى أن يكون فيها قتالا للمعتدى، وكلاهما غير الحالة التى يجب أن يكون الجهاد فيها لمن قاوم الدعوة السائرة على المنهج السلمى فى التعريف والحوار.
الحركية الإسلامية والدعوة الإسلامية
لا خفاء فى أن الدعوة معنى لا يتحقق إلا من خلال طرفين، أولهما داع يرشد ويبين ويهدى، والثانى مدعو يحتاج إلى البيان والإرشاد وإزالة الشبهات والأوهام العالقة بذهنه، ولا شك أن الطرف الأول هو الداعى الذى متعه الله بالعلم والهداية، وأن الطرف الثانى هو المدعو الذى يفتقر للعلم والبيان، ومن ثم للهداية، وبناء على ذلك، فإن الدعوة التى يفهمها ويمارسها أكثر الجماعات الإسلامية اليوم، ليست إلا أنشطة تدور حصرا بين أفرادها أنفسهم، حيث تتمثل فى مناقشات تدور بينهم حول المستجد من أوضاع المسلمين ومشكلاتهم، وتحليل وتقويم واقع الحكومات والأنظمة القائمة، ورسم الخطط التى تكفل وجودا أفضل وأكثر قوة على طريق السعى للوصول إلى السلطة، والتحرك المنظم بينهم لتنفيذ ذلك، ومن هنا ندرك أن ما تقوم به هذا الجماعات الحركية وتسميه دعوة، ليس من الدعوة فى شىء، وإنما هو ممارسة لطائفة من حظوظ النفس وأهوائها. ومع ذلك فهم يلحون دائما على ضرورة الجهاد القتالى، والتذكير به، ورفع شعاره فى كل مناسبة، وهى دعوة لاستنبات الجهاد الإسلامى فى فراغ، بعيدا عن مناخه الذى لا يتحقق وجوده الشرعى إلا به، فالجهاد القتالى كما عرفنا نتيجة لا بد منها للجهاد عن طريق الدعوة، فى حالات بخصوصها، فأين هو الجهاد بالدعوة؟أحكام إعلان الجهاد القتالى
يبين الدكتور الصفتى أن أحكام الإمامة، هى تلك الأحكام التى خوطب بها أئمة المسلمين، بدءًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، من حيث هو الإمام الأعلى لسائر المسلمين، وانتقالاً منه إلى من بعده من الأئمة والخلفاء، بحيث يكون إمام المسلمين هو المسؤول عن تنفيذها ورعايتها، على الوجه الذى يرى أن المصلحة تقتضيه، وتمتاز أحكام الإمامة بقدر كبير من المرونة ضمن حدود معينة، أمكن الله عز وجل الأئمة من التحرك فى نطاقها حسب ما تقتضيه المصلحة، ويعد الجهاد القتالى فى مقدمة أحكام الإمامة، بل لا نعلم أى خلاف فى أن سياسة الجهاد، إعلانًا، وتسييرًا، وإنهاء، ونظرًا لذيوله وآثاره، كل ذلك داخل فى أحكام الإمامة، وأنه لا يجوز لأى من أفراد المسلمين أن يستقل دون إذن الإمام ومشورته، فى إبرام شىء من هذه الأمور.
وقد يكون هذا الجهاد، بشحن الثغور وإحكام الحصون وحراسة الحدود، وقد يكون بمقاتلة من يصدون المسلمين عن إبلاغ الدعوة ويمنعونهم من تعريف الناس بالإسلام وإزالة الشبهات التى قد تتسرب إليه.. وقد يكون بمقاتلة المعتدين خارج البلد الإسلامى وبعيدًا عن حدوده كقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم أحد ويوم بدر، ويوم ذات الرقاع، وقد يكون بمهاجمة المسلمين للأعداء واقتحامهم بلادهم، وذلك عندما يكتشف المسلمون كيدًا يدبر منهم وخطة ترسم ضد أمنهم، فهذه الحالات تدخل كلها فى الجهاد الكفائى، أى الذى يدخل حكمه فى قائمة الفروض الكفائية، وهذا الجهاد يدخل بدوره فى أحكام الإمامة، فلا يملك الإعلان عنه ولا إدارة شؤونه وسياسته، ولا إنهاءه بصلح أو أمان، إلا إمام المسلمين أو من يقوم مقامه.
الحاكم فى الشريعة الإسلامية
المراد هنا بالحاكم أو الملك أو رئيس الدولة، من استقر بيده الحكم بواحدة من طرق ثلاثة؛ وهو مسلم لم يتلبس بأى كفر صريح، أولها البيعة المباشرة له من أهل الحل والعقد، وفى حكمها البيعة غير المباشرة المعمول بها فى كثير من البلاد، والثانية العهد إليه، وهو أن يقترحه الخليفة من قبله ليتولى الحكم بعد موته، فيقبل المستخلف بذلك، وتعلم الأمة أو أهل الحل والعقد فيها بذلك، فلا يبدو منهم استنكار، والثالثة الاستيلاء بالقوة والمغالبة.
وذهب جماهير الفقهاء إلى أن الحاكم لا يجوز أن يعزل لطروء الفسق عليه، بل نقل الإمام النووى الإجماع على ذلك، فقال فى شرحه على صحيح مسلم ما نصه «وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته».
ويقول الصفتى إن أهل السنة أجمعوا على أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور فى كتب الفقه، لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكى عن المعتزلة أيضا، فغلط من قائله مخالف للإجماع، وقال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة فى عزله أكثر منها فى بقائه»، وتابع: نخلص من هذا الذى أوضحناه ونقلناه من كلام الأئمة، إلى أنه لا يجوز فى ميزان الشريعة الإسلامية الخروج على إمام المسلمين ورئيسهم، مهما ظهر منه الجور أو الفسوق، وليس للمسلمين وعلمائهم ودعاتهم إلا سبيل واحد، هو التصدى بالإنكار والصدع بكلمة الحق، فى النهى عن الجور وعن التلبس بمظاهر الفسق، وألا يطيعوا الحاكم فى معصية، أى فيما هو معصية فى حق المأمور، أما ما كان من ذلك معصية فى حق الحاكم ومباحًا فى حق المأمور، فتجب إطاعته فيه، كأخذه أموال الناس بدون حق، نعم، يجوز، بل يجب الخروج على الإمام إن أعلن كفرًا بواحًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أى صريحًا غير قابل لأى تأويل.
وواصل: أين هذا، ممن يرى اعتمادًا على شعوره ومزاجه الشخصى أن الخروج على أئمة المسلمين، جائز، بل واجب، بل هو الجهاد المبرور، لأنهم لا يطبقون شرائع الإسلامية كاملة، أو لأن فيهم من قد تلبس بموجبات انحراف وفسق، ثم يؤثر هذا الذى يراه على ما اتفقت عليه كلمة أهل السنة والجماعة والتقى عليه جماهير الفقهاء.
الأدلة التى يعتمد عليها الخارجون على حكام المسلمين
يقول الصفتى: لا نعلم دليلا يستند إليه هؤلاء الذين يخرجون على حكامهم هنا وهناك، سوى ما يزعمونه بكل بساطة وطمأنينة من أن حكامهم كافرون خارجون عن الملة، ونظرا إلى أن الحاكم إذا كفر وخرج عن دين الإسلام الذى هو دين الغالبية العظمى من شعبه أو رعيته، وجب نزع الطاعة من يده، وعزله عن سدة الحكم بالقوة إن لم يمكن بالتراضى، فإنهم يؤدون بخروجهم عليه واجبًا أنيط بأعناق الأمة بأسرها.. تلك هى حجتهم التى يرددونها ويلقنونها لأتباعهم، وتحرير الأمر فى هذه المسألة يقتضى بيان موجبات الكفر وحدودها، والقواعد التى رسمها أئمة الشريعة الإسلامية فى ذلك.. ثم بيان ما يجب على المسلمين اتخاذه، عند ثبوت موجب من موجبات الكفر فى حق شخص ما من المسلمين أيًا كانت صفته ومهما كان مركزه.
ويواصل الصفتى أن «عمل هؤلاء الناس اليوم، لا يقتصر على الخروج بالترصد القتالى على القادة والحكام الذين ينعتونهم بالكفر والردة، لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله، وإنما يمتد إلى ملاحقة الموظفين الذين تحت أيديهم من شرطة وجنود وعمال ومستخدمين، وهم ينطلقون إلى هذا من فتوى يفتون بها أنفسهم، وهى أن هؤلاء الجنود والعمال والموظفين، أعوان للظلمة أى الحكام فيجرى فى حقهم من الأحكام ما يجرى فى حق رؤسائهم الذين يستخدمونهم ويستعينون بهم!
وتابع: أوضحنا أن هؤلاء الذين يسمونهم ظلمة من القادة والحكام، لا يجوز الخروج على أى منهم بأى قتال أو عدوان، ومن ثم فلا يجوز الخروج على أعوانهم وموظفيهم بأى قتل أو إيذاء من باب أولى، على أن هؤلاء الحكام لو كانوا يستحقون الخروج عليهم بالقتال فعلاً، وكان ثمة مبرر شرعى بذلك، فلا يجوز ملاحقة عمالهم وموظفيهم بالقتل أو الإيذاء لمجرد كونهم كذلك، أى بدون جريرة من كفر أو ارتكاب موجب حد، ولا يجوز سلب صفة الإسلام أو الإيمان عنهم لمجرد كونهم موظفين أو أجراء أو جنودًا تحت سلطة حكامهم.
ويشير إلى أن حاطب بن أبى بلتعة كان من أبرز الأعوان لمشركى قريش يوم فتح مكة فيما تقضى به مقاييس هؤلاء الناس اليوم ولقد قدم لهم وهم كفار حربيون من المساعدة والعون، ما لا يقدم مثله جل من يسميهم اليوم هؤلاء الناس أعوانا للظلمة، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم بالذى فعله حاطب لم ينزع عنه صفة الإسلام، ولم يحكم عليه بقتل ولا بأى إيذاء، لما علم أنه مؤمن بالله ورسوله، ولما نزلت فى حقه الآية التى أنكرت عليه فعله، خاطبته ضمن جماعة المؤمنين بصفة الإيمان. وذلك فى قوله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة﴾، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسه بأى أذى، ولم يزد على أن نصحه واستتابه.
وسبب ذلك أن ما قدمه من العون للمشركين لا يحمل دلالة قاطعة على كفره، إذ ربما كان الحامل له على ذلك شيئا آخر، كما اتضح ذلك فعلا لما اعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «إنى كنت امرءًا ملصقًا فى قريش، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتى، ولم أفعله ارتدادًا عن دينى ولا رضى بالكفر بعد الإسلام»، وقد صدقه فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا لم يكن هذا الذى أقدم عليه حاطب بن أبى بلتعة مكفرًا، ولم يكن موجبًا لتصنيفه مع مشركى قريش، ليعد واحدًا من الحربيين مثلهم، ومن ثم لم يعامله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا معاملة المؤمن الصادق فى إيمانه، فكيف، وبأى وجه يصح أن يصنف من يسمون اليوم بالشرطة أو الموظفين والجنود داخل دول إسلامية، مع المرتدين والكافرين، ثم يفتى بقتلهم واغتيالهم، وهم يعلنون فى كل يوم ومناسبة إسلامهم، وربما كانوا من الملازمين لأوامر الله والكثير من أحكامه...! وإذا لم يجز الخروج بأى أذى على قادتهم وحكامهم فكيف يجوز التصدى بالقتل لأعوانهم؟ والخطأ يكمن أولا فى حكمهم على القادة والحكام بالكفر والخروج عن الملة، ثم يكمن فى عدهم الموظفين والعسكر والشرطة والمستخدمين أعوانًا للظلمة، أى الكافرين..! ثم يكمن فى عد هؤلاء الأعوان على فرض أنهم أعوان الظلمة فعلاً مرتدين كسادتهم يجوز الخروج عليهم بالقتل والتشريد.