ليس هناك مثال على تحولات السلطة والسياسة فى العالم المعاصر، أكثر من البريكست. ومنذ جاءت نتائج الاستفتاء البريطانى على الخروج من الاتحاد الأوروبى ارتبكت حسابات السياسيين، وبعد مرتين من رفض اتفاق تريزا ماى مع الاتحاد الأوروبى، عاد الاتفاق من جديد ليمثل أحد سبل الخروج وتعيد الحكومة طرح الاتفاق. وأعلنت رئيسة مجلس العموم أندريا ليدسوم أن الحكومة تعتزم إحياء اتفاق رئيسة الوزراء تيريزا ماى بشأن «بريكست» وتراه السبيل الوحيد لتحقيق نتيجة الاستفتاء. ولا توجد بدائل لدى رافضى الاتفاق.
وفى الطريق الآخر فإن ملايين البريطانيين خرجوا فى مظاهرات يطالبون بإعادة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبى، ووقع خمسة ملايين على إعادة الاستفتاء، ولا توجد دلائل على أن المتظاهرين ومن وقعوا على طلبات إعادة الاستفتاء بينهم من صوت لصالح البريكست. وكان تونى بلير رئيس الوزراء الأسبق ضمن المطالبين بإعادة الاستفتاء على بريكست، واعتبر عدم إجراء استفتاء ثان نوعًا من خبط الرأس فى الحائط، وقال فى ديسمبر الماضى «حين يتأمل الإنسان كل هذه الفوضى، فكيف يوصف بعدم الديمقراطية الرجوع إلى الشعب البريطانى: فلنقل، فى ضوء كل هذا، أتريدون الخروج من الورطة أم أن تظلون فيها؟».
كان بلير يشير إلى استمرار الارتباك والمخاوف، من تحولات فى الوظائف، ونقص للعمالة فى تخصصات مختلفة وبعض المهن كالأطباء والمهندسين. فضلًا عن وضع أيرلندا التى تدعو للبقاء داخل الاتحاد الأمر الذى يضاعف من الارتباك.
وهناك إشارات إلى أن الاستفتاء نفسه كان فخا جرت فيه تداخلات وتأثيرات خارجية فى إشارة إلى روسيا، وهى نفس الإشارات التى صدرت فى الولايات المتحدة، وانتهت بتبرئة دونالد ترامب من تهمة الاتصال بالروس أثناء حملته الانتخابية.
كانت هناك تحذيرات من إجراء الاستفتاء، باعتباره أمرا معقدا تتداخل معه الكثير من التفاصيل والتشابكات، وأن فقدان السيطرة من ملف بريكست، يبشر بدوامة جديدة من الفوضى يمكن أن تنتهى إما بإجراء انتخابات مبكرة أو حتى تدخل الملكة إليزابيث لإنهاء الجمود، خاصة أن الاتحاد الأوروبى طرح اقتراحات بتأجيل لمدة عام حتى 31 مارس 2020، إذا طلبت حكومة المملكة المتحدة.
وفى الخلفية هناك إشارات إلى أن غياب كبار الزعماء الكبار فى السياسة هو ما أدى الى الفوضى، حيث كان يمكن فى حال وجود أسماء مثل تشرشل أو مارجريت تاتشر أن ينهى قضية العلاقة مع الاتحاد الأوروبى من دون ارتباك، باعتبار أن الأمر ربما كان يتطلب نوعًا من القيادة، بعيدًا عن الاستفتاء الذى قسم البريطانيين وخلق فوضى. بينما القت تريزا ماى بالمسؤولية على النواب الذين أخطأوا لفشلهم فى تنفيذ نتيجة استفتاء 2016، وقالت إنه كان خطأهم وليس خطأها. ورد عليها النواب بأنها «سامة» واتهموها بتوجيه «ضربة تحت الحزام». لكن ماى ترى أنها تحملت المسؤولية فى وقت دقيق، بعد استقالة ديفيد كاميرون، والذى يحمله رافضو الخروج بأنه السبب فى ورطة الخروج.
القصة كلها تصب فى تحولات، يتوقع أن تتسع بشكل أكثر وتمثل تحديات للديمقراطيات الأوروبية، التى تواجه زحفا يمينيا، وخللا يبدو أكبر من قدرات السياسة التقليدية.