لم تكن شهيرة تعرف وهى جالسة على مقاعد مسرح أحد قصور الثقافة فى محافظة الشرقية، أنها على موعد مع "الفتى الأسمر" رائد مدرسة التقمص فى السينما المصرية، أبهرها أداؤه قائلة فى نفسها: "إيه الولد الأسمر ده.. ممثل فظيع"، فى ذلك الوقت كان أحمد زكى قد انتهى من مرحلة دبلوم الصنايع "قسم خراطة" ولا يعرف ما هى وجهته المقبلة، لتنادى عليه بعد انتهاء العرض ودار بينهما هذا الحوار:
- تعالى.. أنت هتعمل إيه بعد الدبلوم؟
* مش عارف.
- إيه رأيك تدخل معهد التمثيل؟
* فين ده؟
- فى مصر.
* بس أنا معرفش أروح مصر.
- أنا هوديك مصر وهاخدك معايا.
آمنت شهيرة بموهبته وقررت اصطحابه معها فى رحلتها إلى القاهرة حيث يقع المعهد العالى للفنون المسرحية، دون سابق معرفة، ودعته إلى تناول الغداء فى منزلها بصحبة أمها، وهو الموقف الذى لم ينسه زكى ودائما يتذكر تلك الوجبة الشهية فى أى لقاء يجمعهما.
رحلة زكى إلى القاهرة مليئة بالعقبات، ذلك الفتى الذى لم يخرج من الشرقية طيلة سنوات عمره الأولى، فهل يتحمل مشقة التعرف على شوارع وأزقة العاصمة باتساع مساحتها وتعداد سكانها؟ وإن كان يمكن تجاوز تلك العقبة بمساعدة صديقته شهيرة، فأين يسكن زكى حتى موعد اختبارات الموعد؛ تحكى شهيرة: طلبت من المخرج فهمى الخولى وكان معيدا وقتها، يدرب زكى على مشاهد تقديمه فى المعهد، ووافق لكن كانت هناك مشكلة وهى: "مش عارفين أحمد زكى هيبات فين بالقاهرة".
وتكمل: " كان فيه ممثل اسمه وفيق فهمى من الشرقية طلبت منه أن يستقبل زكى فى بيته لمدة أسبوع، والأسبوع أصبح شهرين، لكن فى النهاية دخلنا اختبارات المعهد.. وحضّر زكى مشهدين أحدهما لغة عربية والآخر عامية باللهجة الصعيدية".
فى مقاهى وسط البلد حيث يجتمع الهواة الذين يشقون خطواتهم الأولى فى عالم التمثيل ويحتفظ كل منهم بصورة النجم الذى تلتف حوله الجماهير وتطارده المعجبات أين ذهب، تدور الأحاديث حول معاناة الإمبراطور أحمد زكى فى بداياته وينسجون حكايات حول رفضه فى اختبارات معهد التمثيل لمرتين متتاليتين حتى قُبِل فى الثالثة رغم ثراء موهبته، فى محاولة منهم لإرضاء غرورهم بأن الحلم لم ينته بعد، وعليهم أن يصبروا ويثابروا من أجل الفن، "ده أحمد زكى بجلالة قدره متقبلش فى المعهد"، لكن الحقيقة قد تكون صادمة لأغلبهم، فأحمد زكى قُبِل بمجرد تقديمه أول مرة وكان الأول على الطلاب – بحسب شهيرة - وهى الأولى على الطالبات.
وتخرج أحمد زكى من المعهد وشارك فى العديد من الأعمال وبدأ اسمه يتردد فى الصحف والقنوات، ورشح لفيلم "الكرنك" قبل أن يسند لنور الشريف، لكن المنتج رمسيس نجيب اعترض على إعطاء دور لزكى، وقال: سعاد حسنى تحب الولد الأسمر ده.. السندريلا بتاعتنا اللى عملت الحب الضايع وبئر الحرمان وزوزو.. لو ده حصل الفيلم هيسقط".
الكاتب ممدوح الليثى أبلغ زكى بالأمر فى مكتبه وفجأة التقط أحمد زكى كوبا زجاجيا وضرب جبهته، وهو يصرخ ونزفت دماؤه وهو لا يزال يصرخ، وسار يومها هائما على وجهه فى شوارع القاهرة باكيا يهز رأسه بأسى، وحاول الانتحار- بحسب شهيرة - قبل أن يستعيد اتزانه النفسى ويتوعد صناع الفيلم بأنهم سيلهثون وراءه وسيشعرون بالندم بعدما يدركون أن زمن رمسيس نجيب انتهى، وقد كان، إذ جسد زكى أعمالا من أعظم ما أنتجت السينما المصرية، ليستحق لقب ملك مدرسة التقمص عن جدارة.
وتمكن المرض من الراحل أحمد زكى وأقام فى المستشفى فى آخر أيامه، وكان الدور الذى يتلقى فيه العلاج لا يخلو من المحبين، تقول شهيرة: "مكنتش بسيبه فى المستشفى، وأتناوب أنا والفنانة رغدة زيارته أثناء مرضه، دخلت له مرة وقلت له: "بنات قمرات واقفين برة طوابير عشانك.. إيه حب الناس ده"، نظر إلى السماء وقال لى: "المهم حب الله"، وكانت هذه آخر كلماته، لتودعه شهيرة الذى رافقته فى بداية مشواره الفنى حتى لاقى ربه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة