"أريد العملة الأمريكية أن تكون عظيمة لدولتنا.. وليست القوية للغاية بما يفوق قدرتنا على التعامل مع الدول الأخرى".. هكذا قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى تصريحاته الأخيرة، والتى واصل فيها انتقاد سياسات البنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، والتى تقوم فى الأساس على رفع أسعار الفائدة للحفاظ على قوة الدولار، وهو الأمر الذى يتعارض مع رؤية الإدارة الحالية، والتى تسعى إلى إعادة قدر من التوازن التجارى، فى إطار الحروب الاقتصادية التى تخوضها سواء على الحلفاء أو الخصوم على حد سواء، وعلى رأسهم الصين، ودول الاتحاد الأوروبى.
وتقوم رؤية الرئيس ترامب على أن قوة العملة ليست مؤشرا على قوة الاقتصاد، وهو الأمر الذى تؤيده بعض النماذج، التى تشهد طفرة اقتصاديا رغم انخفاض قيمة عملتها، وعلى رأسها الصين، والتى تحتفظ بقيمة عملتها (اليوان) فى مستوى أقل من قيمته الحقيقية، للحفاظ على قدرتها على غزو الأسواق العالمية، ومن بينها السوق الأمريكى، عبر منتجاتها، وهو الأمر الذى يعد بمثابة السبب الرئيسى فى اختلال التوازن التجارى بين واشنطن وبكين لسنوات طويلة، حيث وضعت الإدارة الحالية على عاتقها مسئولية استعادة التوازن، فى إطار العديد من الإجراءات التى دأبت على اتخاذها منذ بداية عهدها فى 2017، وعلى رأسها الإجراءات الحمائية التى تبنتها تجاه الصادرات القادمة من الدول الأخرى، فى خطوة تمثل إنقلابا على مبادئ حرية التجارة التى كانت الولايات المتحدة بمثابة الداعية الأولى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ميزة تنافسية.. ترامب استلهم السياسة النقدية للصين
وهنا يمكننا القول إن الرئيس الأمريكى ربما استلهم السياسة الصينية، والتى قامت على خفض قيمة عملتها، لزيادة القدرة التنافسية للصادرات، خاصة وأن خطاب ترامب، منذ حملته الانتخابية، انطلق من أن الأزمة التى يعانيها الاقتصاد الأمريكى تكمن فى ضعف الصادرات، وبالتالى يصبح خفض قيمة الدولار هو السبيل لمنح الصادرات ميزة تنافسية عن منتجات الدول الأخرى، والتى تمكنت من إغراق الأسواق الأمريكية بسبب ضعف أسعارها بالدولار، لتتحول الحرب التجارية التى بدأها ترامب بإجراءاته الحمائية إلى حرب عملات، تعيد إلى الأذهان ما يسمى بـ"سياسة إفقار الجار" التى كانت متبعة فى الثلاثينات من القرن الماضى.
قوة الدولار تزعج ترامب
ولعل رغبة ترامب فى خفض قيمة الدولار لا تقتصر فى تداعياتها على الحرب التجارية مع الصين، والتى تمثل الخصم التجارى الرئيسى لواشنطن، وإنما تمتد إلى الحلفاء فى أوروبا، خاصة وأنه اتخذ نفس الإجراءات الحمائية التى استهدفت بكين بصددها فى الأشهر الماضية، لينهى حقبة قامت على الاعتماد الكلى من قبل أوروبا على الحليف الأمريكى، على المستوى الاقتصادى، إلى جانب مستويات أخرى عسكرية وسياسية، فى مقابل أن تحتفظ واشنطن بقيادتها لدول المعسكر الغربى.
مسارا مزدوجا.. واشنطن تسعى لرفع قيمة عملات منافسيها
إلا أن حرب العملات التى يخوضها ترامب تحمل مسارا مزدوجا، فإلى جانب صراعه مع البنك الاحتياطى الفيدرالى ورئيسه جيروم باول فى الداخل الأمريكى، لخفض أسعار الفائدة وتخفيض قيمة الدولار، يخوض مفاوضات مارثونية مع الصين، تهدف فى الأساس إلى رفع قيمة اليوان، فى ظل اتهامات أمريكية لبكين بالتلاعب فى عملتها لإحراز مزايا اقتصادية وتجارية على حساب الدول الأخرى، وهو الأمر الذى ينطبق كذلك على الحلفاء، وعلى رأسهم اليابان والاتحاد الأوروبى، وبالتالى فهى تنتفع جميعها بقوة الدولار أكثر من الولايات المتحدة نفسها.
ترامب وشى جين بينج
رؤية ترامب تبدو صائبة إلى حد كبير فيما يتعلق بالمكاسب التى يحققها منافسو واشنطن، جراء انخفاض قيمة عملتهم أمام الدولار، فالحكومة الألمانية، باعتبارها صاحبة الاقتصاد الأقوى فى أوروبا، اتخذت إجراءات من شأنها تخفيض قيمة اليورو، استطاعت من خلالها تحقيق الكثير من المزايا التجارية، بينما تحتفظ اليابان بقيمة عملتها أقل من قيمتها الحقيقية، لتصبح أرخص عملة بين الاقتصادات الكبرى فى العالم، خاصة وأن البورصة اليابانية دائما ما تشهد انتكاسات كبيرة كلما زادت قيمة الين، فى مؤشر واضح على ارتباط المكاسب الاقتصادية التى تحققها طوكيو بالإجراءات النقدية التى تتخذها الحكومة.
تجسيد الواقع الجديد.. أمريكا لم تعد تحتمل قوة دولارها
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت الإدارة الأمريكية تتجه نحو إرساء نظام اقتصادى عالمى جديد فى المرحلة المقبلة، فى إطار محاولاتها لتغيير القواعد الدولية التى سبق وأن أرستها واشنطن، والتى تدور حول حرية التجارة، وحرية سعر الصرف، حيث تمثل دعوة ترامب إلى البنك الاحتياطى الفيدرالى بخفض قيمة الدولار، بمثابة دعوة صريحة إلى العودة إلى نظام سعر الصرف الثابت، والذى يقوم على سيطرة السلطات المحلية على قيمة عملاتها المحلية بعيدا عن العرض والطلب، خاصة مع التأثير المتوقع لمثل هذا الإجراء على العملات الأخرى فى الدول المنافسة اقتصاديا.
الإجراءات الحمائية الأمريكية كانت سببا فى توتر العلاقة بين واشنطن وحلفائها
ولعل رغبة الإدارة الأمريكية فى خفض قيمة العملة يمثل تجسيدا صريحا لتراجع الوضع الدولى لواشنطن، خاصة وأن قيمة العملة تمثل فى جوهرها انعكاسا صريحا للوضع السياسى للدولة، وبالتالى يتشكل دورها فى قيادة العالم الاقتصادى، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الدولار القوى مؤشرا على الهيمنة الأمريكية، سواء سياسيا أو اقتصاديا، على العالم، فى الوقت الذى عانى فيه أقرانها الأوروبيين من الدمار والركود جراء الحرب التى دامت لسنوات، وبالتالى قامت الولايات المتحدة برسم السياسة الاقتصادية الدولية فى العالم استنادا على قوتها الاقتصادية.
ولكن شهدت الأوضاع الدولية، سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى تغييرات كبيرة، جراء التطور الكبير الذى شهدته الدول المنافسة سواء فى أوروبا وآسيا، عما كانت عليه الأوضاع فى سنوات، أو ربما عقود بعد الحرب العالمية الثانية، ليصبح قوة الدولار الأمريكى سببا فى خسائر متتالية للولايات المتحدة أمام خصومها الاقتصادية، وهو ما يدركه الرئيس ترامب فى المرحلة الراهنة، ويسعى لاحتواءه عبر دفع البنك الاحتياطى الفيدرالى للتدخل من أجل تخفيض قيمة الدولار، حتى يمكن لواشنطن مجاراة منافسيها، والذين تمكنوا من تحقيق مكاسب طائلة عبر المزايا التى منحتها لهم الولايات المتحدة لسنوات طويلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة