سهيلة فوزى

اسمها رضوى

الجمعة، 12 أبريل 2019 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جلس كعادته أمام البحر، بعد أن ألقى زهرة التوليب الصفراء فى قلب مائه الأزرق الداكن، أوصى الموج أن يترفق بزهرته، وأوصاها أن تحمل سلامه إلى "رضوى"، تذكّر يوم داعبها ساخرا: كيف تُحبّين اللون الأصفر وهو رمز الغيرة؟ فالغيرة لا تليق بكِ يا حبيبتى؟ 
 
ابتسمت - كعادتها كلما وَجّه إليها سهما ناقدا - فهى دوما هادئة، واثقة، لا تميل إلى تفسير شىء، وتكتفى فقط بإقرار المحبّة أو نفيها بدون أسباب. يحضره الآن ردها: "أُحبّ التوليب الأصفر". حقيقة الأمر أنها لم تمنحه جوابا عن سؤاله، بقدر ما منحه صوتها، ونظرة عينيها العسليتين، ثقة فى اختيارها؛ فلم يعد مع تلك الثقة فى حاجة لأى تفسير.
 
يُوقِن أن البحر لن يخذله وأن أمواجه الهادرة ستعبر بزهرته مضيق جبل طارق، حتى تصل بها إلى أمان مياه الأطلنطى الغادر، حيث تستقر حبيبته.
انتهى الأمر قبل التاسعة من صباح 31 أكتوبر 1999، كان صوت جاد يتسلّل من الغرفة، تسمّر أمام الشاشة الصغيرة، وفجأة اختلط وجه السيدة الحزينة بوجه "رضوى" الضاحك، مع ملح دموعه الدافئة، تذكّر تلك الابتسامة التى ودّعته بها آخر مرة، قبل ساعات من رحلة عبورها ذلك المحيط، الذى تَدّعى تلك السيدة الآن أن "رضوى" قد اتخذته مُستقرا لها، وهجرت حبه إلى الأبد.
 
تلك السيدة التى تبدو على مشارف الأربعين. اعتاد الاستماع إليها فى نشرات الأخبار بصوت محايد، تخلت اليوم عن حيادها، واستسلمت للحزن ليحتل جبرا نغمات صوتها الوقور، فتدفقت كلماتها إلى سمعه مُتدثّرًة بغطاء الموت؛ لتُعلن أن طائرة مصر للطيران "الرحلة 990" القادمة من لوس أنجلوس لن تصل القاهرة؛ لأنها سقطت فى المحيط الأطلنطى.
 
كاد يُجنّ. غادر الغرفة، وظن أنه يعيش كابوسًا. عاد من جديد إلى السيدة الحزينة. تجمّد فى مقعده، وتوالت التفاصيل كالصواعق، فتأكد أن الأمر كله حقيقة.
ثار غاضبا: "كيف فَقدَ الطائر المعدنى الضخم قدرته على التحليق؟.. هل أنهكه طول الطريق؟.. كيف لعملاق البوينج اللعين أن يشعر بالتعب بعد ثلاثين دقيقة فقط من الطيران؟ أى عبث هذا؟.. أم تُرى أغرته زُرقة المحيط؟ هل ظن الطائر الأحمق أنه نهر عذب فُرات قد يروى ظمأ طريقه الطويل؟ فهوى يرتوى، وهَوتْ مع روحه مائتان وسبع عشرة روحًا أخرى؛ فتَقبّلهم المحيط قُربانا. ذابت أجسادهم، وذابت معهم "رضوى" - التى كانت تملأ تلك الغرفة ضحكًا صاخبًا قبل أيام - فى ذلك المحيط الشاسع. 
 
كان ينتظر أن يضم "رضوى" إلى قلبه عند عودتها، ويطوقها بذراعيه، لكن قلب المحيط المظلم كان أسبق إليها منه.
 
يتذكّر الآن أول لقاء بينهما. لم يبذل جهدا كبيرا لإقناعها بقبول دعوته على العشاء، تعرّفت يومها إلى صديقه الوفى. نمر أفريقى ضخم يجلس متأهّبًا داخل غِطاء يستقر فوق فراشه منذ عام تقريبا. تدثّرت به عشرات الحسناوات، أغلبهن شعرن بالرهبة من نظرة النمر المتحفز، وحدها "رضوى" جَفَلَ النمر أمام عينيها العسليّتين وفرّ هاربًا. ترك صديقه يواجه مصيره وحيدا. خشى يومها المقولة المأثورة "الانطباعات الأولى تدوم"، وكان قد اعتاد أن يترك انطباعات جيدة دومًا، لكنه ما إن رأى نِمرَه الوفىّ يفرّ هاربًا؛ حتى خشى ألا تكون المواجهة فى صالحه، رتّب أوراقه من جديد متعجلا، وقرر أن يكون لقاءا هادئًا، رحلة استكشافية تعد بلقاء قريب أكثر تعمّقًا.
 
اعترف لها فى اللقاء الثانى بأن صديقه الأفريقى خذله فى المرة السابقة، ولم يُلقِ الرعب فى قلبها، كما ألقاه طوال عام كامل فى قلوب حسناوات كثيرات مررن مثلها هنا. فتلك اللحظة التى تملأ الرهبة فيها قلوبهن، تجعله ملاذهن الآمن ليلة كاملة.
 
قاوم فى البداية أن تنفرد به امرأة واحدة، لكن ما إن تدثّرت "رضوى" بنمره الأفريقى أول مرة، حتى تسللن الأخريات من فراشه وهجرنه إلى غير رجعة. سألته أول من قرّرت الرحيل: هل تحب؟. أجابها فى هدوء: "أنا لا أحب". فعادت غيرها لتسأل: "هل تحب امرأة أخرى؟". تلعثم، وردّ كذبًا: "أنا لا أحب". فى المرة الأولى كان صادقًا تمامًا، أما فى الثانية فكانت "رضوى" قد ملكت القلب والعقل، ولم يعد منها مفر إلا إليها.
 
طَهّر قلبه وفراشه من الذكريات القديمة، وانتظر موعدهما الأخير قبل سفرها. فى تلك الليلة مرّ طيف خفيف يُخاطب قلبه هامسًا: "إنه الوداع". وَبَّخَ خياله باستنكار: "لا وداع مع رضوى.. هى اللقاء الأبدى".
 
كان ملك الموت يحيط بها، فهمس يحذره، كأن الموت أراد ألا يختارها، لكنه بعث رسولا لا يليق بحمل أمانته.
اليوم، كلما مرّ طيفها به، يهمس إليه: "عفوا يا حبيبتى، لم أكن أهلا لحمل الأمانة...".
 
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة