لا تقتصر مكاسب التعديلات الدستورية على مضمون التعديل وأهميته لتحقيق الاستقرار السياسى فحسب، لكن التعديلات كشفت لنا عن مكسب آخر تمثل فى حالة النضج والحنكة والاحترافية التى أدار بها رئيس مجلس النواب المصرى الدكتور على عبدالعال فعاليات الحوار المجتمعى، وجلسات البرلمان التى ناقشت التعديلات فى نصوص الدستور، هذه الاحترافية التى بدأت من قيادة المجلس وهيمنت على أجواء الحوار، وامتدت لمختلف المقترحات المؤيدة أو المعارضة حول هذا التطور الدستورى والسياسى الجديد.
نحن أمام مجلس نيابى مختلف، وحالة ديمقراطية ناضجة، ونحن أمام حوار حقيقى قاد إلى تغييرات كبرى فى النصوص التى قدمها النواب للتعديل، وساقنا كذلك إلى تطور فى القناعات مع كل مرحلة جديدة من مراحل النقاش، ومع كل مقترح جاد تقدم به المشاركون إلى المجلس، هذا مكسب آخر فى ذاته، وهذا إنجاز مهم لم نكن نتوقعه لا يقل أهمية عن إنجاز الدستور، فمصر اشتاقت إلى هذه الجدية، وتطلعت إلى أن يسودها حوار ديمقراطى حقيقى يتبادل فيه النواب والشعب الرأى بحرية، وترتقى فيه الأفكار الخام، لتصبح منتجا وطنيا متكاملا يرشد البلاد إلى الأصوب دائما لمصلحة الناس.
كان الدكتور على عبدالعال رمزاً لهذا النضج والرقى فى مشاهد مختلفة، خلال الستين يوما الماضية:
لم يدخل رئيس مجلس النواب إلى الحوار المجتمعى بعقيدة مسبقة متعصبة لما تؤمن به، لكنه كان مستعداً طوال الوقت أن يبحث ويفتش عن رأى آخر غير هذا الذى يعتقد، وقد كان لمقال واحد للدكتور محمد غنيم سبباً فى أن يغير الرجل قناعته تجاه بعض المواد، خاصة ما يتعلق بالمادة 140، وبالحوار حول المادة الانتقالية التى شملها مقترح التعديل الأول.
لم يبدل الدكتور على قناعته فى الظلام، لكنه أعلن على الملأ أن هذا المقال كان له تأثير كبير فى أفكاره وفى رؤيته للأصوب دستوريا، وللملائم وطنيا، وتسبب ذلك فى قيادة دفة المجلس والساعات الطويلة لجلسات الحوار المجتمعى نحو وجهة أخرى تماما.
كان الدكتور على شغوفا باستقلال القضاء، ومنح المواد الخاصة بالهيئات القضائية امتيازاً خاصاً فى الحوار وفى التفكير وفى الصياغة النهائية، مؤمنا بأن استقلال القضاء هو الضمانة الأكبر لصون البلاد وحماية الأمة، وكان للتعديلات التى أضافها الحوار بقيادته، وبالتأسيس القانونى والدستورى لهذه المواد أثر كبير فى خروجها على نحو واثق، وفى حصد موافقة الهيئات القضائية على هذه المواد فى صياغة مبتكرة وجامعة.
لم يتردد الدكتور على فى منح كل قضية حقها من النقاش، أيا كانت جهة طرح هذه القضية، وأيا كانت نواياهم، وتبدى ذلك بوضوح فى النقاش الذى جرى مع قيادات حزب النور السلفى حول الفرق بين المدنية والعلمانية، وربما يجوز هنا أن ندعى بأن الدكتور على أعاد ترتيب هذا العقل السلفى ترتيبا منطقيا للتفرقة بين المدنية والعلمية، اصطلاحاً وتطبيقاً، مقدماً نماذج نابضة بالحيوية ساعدت قيادات حزب النور على اتخاذ القرار الأصوب بشأن مدنية الدولة.
هذه أمثلة على النضج السياسى والاحترافية فى مشهد التعديلات الدستورية، لكن مضابط الحوار المجتمعى وجلسات البرلمان تكشف عن أبعاد أعمق وأمثلة أكثر لما وصل له البرلمان المصرى بقيادته ونوابه من رقى واحتراف يشكل مكسبا كبيرا لمصر، ويؤسس لمرحلة جديدة من الديمقراطية الحقيقية والجادة بدلا من سنوات التراشق الأجوف، والصخب الأعمى الذى قادنا من قبل إلى خسائر فادحة، وأهدر على هذا البلد سنوات طويلة من العمل والكفاح.
نحن كسبنا المزيد من الاستقرار من التعديلات الدستورية..
وكسبنا أيضا برلمانا ناضجا ونابضا بالجدية والمنطق..
ورئيساً لهذا البرلمان فاجأنا بما هو عليه من معرفة، وما يتمتع به من صبر، وما بلغه من نضج سياسى يشكل نموذجا تأسيسيا فى ديمقراطيتنا النامية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة