أيمن عيسى

عن التي لها نصيب من اسمها

الإثنين، 08 أبريل 2019 11:50 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الآنَ .. أَعرفُ مأزَقَ الكلماتِ.. أعرفُ وَرْطَةَ اللغةِ المُحَالَةْ .. وأنا الذي اخترعَ الرسائِلَ ..
لستُ أدري .. كيفَ أَبْتَدِئُ الرسالَةْ ..السيف يدخُلُ لحم خاصِرَتي.. وخاصِرَةِ العبارَةْ ..
 
كم هو قاس إحساس الفشل في التعبير عما بداخلك، غير أن الفشل يتضاعف، عندما تكون مهمتك بالأساس أو مهنتك هي التعبير، هي الكتابة.. بينما لا تجد في معجمك كلمات تفي بالغرض، أو حتى تحكي بها، أو تشتكي، أو تتألم.
لم يكن نزار قباني من أولئك الذين يعانون عند اختراع المصطلحات، أو كتابة الإحساس، ومع ذلك عندما تعلق الأمر بفقد الأحبة، تألم بكلمات، بدأت بها أول سطرين في مقالي، وقال حديثا في رثاء بلقيس، مفاده أنه تعرض لمأزق عدم القدرة على التعبير عما بداخله، فقال "الآن أعرف ورطة اللغة المحالة".
 
نعم أنا الآن في ورطة اللغة المحالة.. ففي كل محن الحياة، لا توجد محنة أصعب من فقد الأحبة، ذلك أنها ضمن الأشياء التي تدخل نطاق الألم الدائم، أو قل المتجدد، حيث تختلط مشاعر مختلفة كلها تتبع قائمة الحزن، ويزدوج الطريق بين حزنين، الأول متعلق بحاضر يقول إننا لن نرى الأعزاء مرة أخرى، والثاني يرتبط بمستقبل باهت، دون الأحبة، ثم الحزن الثالث، الذي يعلق طريقه لافتات مكتوب عليها كل ذكريات وتفاصيل من رحلوا، لذا فليلتمس لي كل من يقرأ بعض الارتجال، وقبلكم جميعا، تلتمس لي صاحبة مقام الرثاء، عدم قدرتي على توصيف حزني عليها، بكلمات تليق بها.
 
عن "الصافية" التي لها نصيب من اسمها، أستطيع التحدث دون كلل أو ملل حتى نهاية العمر، غير أني لن أستطيع ترتيب الكلام، كل المصطلحات الفلسفية التي أعرفها تفشل في تشكيل مقطوعة واحدة متناسقة، تصف كيف كانت، وكيف كنّا، وكيف أضحت وأضحينا، ففلسفة الفقد في ذاتها أكبر من الكلمات، وأصعب من قدرة أشد الشعراء براعة على تقديم وصف دقيق لها.
 
عن التي لها نصيب من اسمها، تتوه الكلمات المرتبة، وتبدو الجمل الارتجالية أكثر وضوحا، وإن شئت قل أكثر صدقا، تتزاحم التوصيفات لكثرة الصفات الجميلة، فيما يزدوج حزني ويتضاعف، مرة عند فقدانها، وأخرى لفشلي في وصفها، فلا أنا المتقبل القليل من حروف تبدو عشوائية، وبها الكثير من قلة الحيلة، وفقدان الكاتب لأدواته الأساسية، ولا مقامها الرفيع يستحق مني فقر الكلمات، وأقلها تأثيرا.
 
معقدة كثيرا ومتشابكة، تلك المعادلة التي نحاول فيها تقديم رثاء يليق بمقام المفقود، مع المحافظة على شكل منسق للحديث، وربما لو فعلنا، فقد أسأنا للمقام الرفيع، ونجحت مهمة الكلام، على حساب توصيف الإحساس، فلا المقام تليق به الكلمات، ولا صاحبته كانت تتحدث إلا فعلا، فكيف يطلب مني الرثاء بالكلام؟
 
كل الذين قالوا إن الأشياء تنسينا الإنسان مخطئون، بل لم يعرفوا قيمة الإنسان، ذلك أن الأشياء إما أنها تجعلنا نتذكر بشرا كانت ستكون الحياة أفضل لو شاركونا إياها، أو لا تفعل شيئا في المطلق عندما نشتاق لمن فقدنا،  كما الأماكن تذكرنا بمن كانوا فيها، وبذكرياتهم وتفاصيلهم، فما الأماكن تطاق دون أصحابها، ولا الأشياء لديها قدرة منح السعادة أو منعها، وحدهم البشر.. وحدهم، لا سيما عندما يكون الحديث عن الأم، "أم" الفضل والتفضل، أم الكرم والتسامح، أم النجاح التي لم تنجبني، ولا أرى غضاضة في وصفها بأمي دون تفريق بينها وبين العظيمة التي أنجبتني، بل بلا ترتيب، فمقام الأم عموما، أسمى من ترتيبه ترتيبا رقميا. 
 
لم أكن من هؤلاء الذين يفقدون كثيرا، أو بالأحرى الذين يبالون عند كل الفقد، غير أني من أولئك الذين يفقدون غاليا دائما، للدرجة التي تجعلني على يقين أن فلسفة الفقد أساسها قيمة من فقدنا، وليس عدد من فقدنا، وذاتها الفلسفة وبنفس الدرجة والجدارة، تجعلني _على قلة عدد من فقدتهم _ أستطيع أن أقدم للبشرية نظريات ارتجالية في محنة الفقد، وَلَا تتذكر عيناي مواعيد كثيرة للبكاء، غير أنها، وعلى قلة عدد دموعها أيضا، تستطيع أن تحرق كل ما تقع عليه العين، من شدة حرارتها، على فقدان الأعزاء.
 
عن النقية الصافية، التي لها نصيب من اسمها أكتب، فأقول إنها عاشت لغيرها، فلم تمت، بل أجبرت على التوقف عن العطاء، وذلك لسوء حظنا نحن، عاشت لغيرها، فعاشت في وجدان من يمتلك معدنا نظيفا منهم، إنها لن تمت إلا عند أولئك الأشرار، الذين ينسون كل جميل، وللأفضال لديهم مدة صلاحية، تنتهي بعد حين، غير أن أفضال مثلها عصية على النسيان، كما هي عصية على انتهاء الصلاحية.
 
إن التي لها نصيب من اسمها من أولئك الذين من فرط عطائهم، تشعر معهم دائما بالتقصير _ وما أبرئ نفسي_ ولا أقصد أن أريكم ما أرى، لأني أوقن أن كل التقصير مع هؤلاء ذنب لا يكفيه الدهر للغفران، ولا حيلة لنا غير طلب الشفاعة، فلربما مستنا نفحة من خيرات التي لها نصيب من اسمها، فنزلت بردا وسلاما، يخفف إحساسنا بالذنب والتقصير في حق من طوقت أعناق الجميع بكل جميل، أما بفضل قدمته، أو ذنب غفرته، أو قدرة على التسامح علمته، أو رد لغيبتنا، أو افتراء علينا كذبته.
 
عن تلك التي لها نصيب من اسمها لم أستطع في كل كلماتي استخدام مصطلح "كانت"، فهي باقية ولم تغب.. كيف يتنكر القلم الذي يكتب لجميل قدمته له المتغيبة عنا بجثمانها، الحاضرة بعطائها ويصفها بـ"كانت"، ومن أين تأتي الجرأة لصاحب هذا القلم، أن يعتبرها ماضيا انتهى، وهي الحاضرة في كل تفصيلة إيجابية في حياته، حتى في صورة مقاله المنشور رثاء لها، يتذكر فضل لها وقتها. 
 
ليست دعوة للحزن، لكن الله لم يعاتب الأنبياء الذين اصطفاهم على الحزن عند الفقد، ولم يعاتب يعقوب النبي، الذي حزن حتى ابيضت عيناه من الدمع على فقدان محتمل لابنه، فكيف حالنا كبشر، عندما يكون الحديث عن فقدان مؤكد لعزيز، دون امتلاك لصبر الأنبياء ولا لإيمانهم؟
 
إلى التي لها نصيب من اسمها.. لا أرثيك، بل أرثي نفسي، وكل أحبتك الذين فقدوكي، أرثي من كانوا يعتبرونك ملجأهم الآمن، وفقدوه، والمساحة الأكثر تسامحا في الكون، وفقدوها، أرثي من كان يرى في صبرك التفاؤل والحكمة والعظمة، ومن رأى في حياته طاقة نور، كنت مصدر الإضاءة بها، ومن تعلم منك الصبر الجميل، والخير الجزيل، والعطاء السخي... هولاء كلهم وأنا بينهم نستحق الرثاء.. عزائي الوحيد أنني أثق أن حالك أفضل منا الآن، ولأنك عشت لغيرك، فقد منحك الله راحة أبدية منا، ولا نملك إلا التعلق بدعوة منك، ودعوة لك، ربما تنفعنا شفاعتك، وربما يسامحنا الله بذكر سيرتك العطرة دائما بالدعاء.
 
دعوة منك، ودعوة لك، حتى يجمعنا الله بك.. فلك الرحمة، ولك الغفران، ولنا الصبر.. لنا الصبر
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة