قبل اكتمال العام الأول لثورة 23 يوليو 1952.. «كانت هناك أشياء ملفتة للانتباه فى العلاقة بين الصحافة والثورة»، وفقًا للكاتب الصحفى رشاد كامل فى كتابه «صحافة الثورة».. وكان يوم 11 مايو، مثل هذا اليوم، 1953 دليلًا، حيث نشرت «روزاليوسف» رسالة خطيرة كتبتها السيدة «فاطمة اليوسف» صاحبة المجلة إلى جمال عبدالناصر، ورده عليها.
قالت «اليوسف» فى رسالتها: «تحية أزكى بها شبابك الذى عرضته للخطر، وجهدك الذى تنفقه من أجل هذا الوطن، تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة، أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتى كفرت بكل وجه يحمل ملامح القدم، فلا يسعدها اليوم شىء كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف، وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير، إننى أعرف الكثير عن ساعاتك التى تنفقها عملًا بغير راحة، ولياليك التى تقطعها سهرًا بلا نوم.. وتدقيقك البالغ فى كل أمر بغية أن تصل فيه إلى وجه الصواب، ولكنك، وحدك، لن تستطيع كل شىء، ولا بالمعونة الخالصة من إخوانك، وأصدقائك، وكل الذين تعرفهم وتثق بهم، فلابد لك من معونة الذين لاتعرفهم أيضًا، الذى يعيشون فى جو غير جوك، ويتأثرون بعوامل غير التى تؤثر فى أصدقائك، ويمرون بتجارب كثيرة منوعة لا يمكن أن يمر بها واحد من الناس، ولاعشرة، ولا ألف.
إنك باختصار، فى حاجة إلى الخلاف.. كحاجتك إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معا، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، الاتحاد للغايات البعيدة والمعانى الكبيرة والخلاف للوسائل والتفاصيل، انظر إلى الأسرة الواحدة فى البيت الواحد، قد تراها متماسكة متحابة متضامنة.. ولكن كل فرد فيها يفضل نوعًا من الطعام، ويتجه إلى طراز من العمل، ويروق له لون من الثياب، ثم انظر إلى أسرة الوطن الكبير، أى وطن كبير، تجد هذا التباين والخلاف موجودًا بينهم فى أدق دقائق الحياة، وفى طريقة تذوق الحياة ذاتها.
أنت تؤمن بهذا كله لاشك فى ذلك، وقرأت لك حديثًا تطالب فيه بالنقد، وبالآراء الحرة النزيهة ولوخالفتك، ولكن، أتعتقد أن الرأى يمكن أن يكون حرًا حقًا وعلى الفكر قيود؟، وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس، واستبدلت حديدها بحرير، فكيف يتخلص صاحب الرأى من تأثيرها المعنوى؟. يكفى أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه.. يكفى أن يشم المفكر رائحة الرقابة، وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لاتمس، ليتكبل فكره، وتتردد يده، ويصبح أسيرا بلا قضبان.. قرأت لك أيضًا، أو لبعض زملائك، أنكم تبحثون عن كفايات، وتريدون طرازا غير المنافقين الموافقين ولكن كيف يبرز صاحب الكفاية كفايته؟. أليس ذلك أن يعبرعن نفسه.. يعبرعنها بصراحة ودون تحوير؟. إن مجرد شعور صاحب الكفاية مخطئا أومصيبا، بأن هناك شيئا مطلوبا وشيئا غير مطلوب يجعله إما أن يبعد نفسه خشية ألا يوافق المطلوب، وإما أن يقترب بعد أن يهيئ نفسه ليتلاءم مع ما يعتقد أنه مطلوب، فتضيع الفائدة منه فى كلتا الحالتين.. أترى.. إلى أى حد تفسد هذه القيود الجو؟. أترى إلى أى حد هذا الستار الكثيف الذى تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟.
الناس لابد أن يختلفوا لأنهم مختلفون خلقا ووضعا وطبعا، ودعت الظروف إلى إلغاء الأحزاب، وتعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأى، وأصبح للعهد الجديد شعار واحد وألوان واحدة، فلم يبق شىء يمكن أن يتنفس فيه النقد، وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصحف، وأسنة الأقلام، وتفكير المواطنين، على أنى أعرف الدوافع لإبقاء القيود. أنت تخاف أنياب الأفاعى، وفئران كل سفينة. أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيد منها الملوثون المغرضون.. ولكن صدقنى أن هذا النوع من الناس لايكون لهم خطر إلا فى ظل الرقابة وتقييد الحريات.إن الحرية لايستفيد منها أبدا إلا الأحرار والنورلايفزع إلاالخفافيش..أما الهمسات فى الظلام، والبسمات التى يبطنها النفاق والمدائح التى يمتزج بها السم الزعاف.. فلا شىء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأى العام النابه الحريص.
ولا تصدقوا ما يقال من أن الحرية شىء يباح فى وقت ولا يباح فى وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التى يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس فى وقت دون آخر، إنك بكل تأكيد تضيق ذرعا بصحف الصباح حين تطالعها فتجد أنها تكاد طبعة واحدة لا تختلف إلا فى العناوين.. حتى بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانا بلاغ رسمى واحد والناس كلهم يحسون ذلك ولايرتاحون إليه.. وقد قلت مرة أنك ترحب بأن تتصل بك أية جريدة إذا أحست الضيق، ولكن.. أليس فى هذا ظلم لك، وللصحف، وللقضايا الكبرى التى تسهو عليها؟.. ألم أقل إنك لن تستطيع وحدك كل شىء؟.. لقد أقدمت، وفى شبابك الباكر، على تجارب هائلة.. خضت بعضها ورأسك على كفك لاتبالى مصيره، وليس كثيرًا أن تجرب إطلاق الحريات.إن التجربة كلها لاتحتاج إلا الثقة فى المصريين.. وأنت أول من تجب عليه الثقة فى مواطنيه».
..كيف تعامل عبد الناصر مع هذا الخطاب؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة