يحل شهر رمضان الكريم على الأمة الإسلامية بمزيج من الطقوس والعادات الخاصة التى تلازم وجبتا الإفطار والسحور، ومنها الاستمتاع بالسهرات والخيام الرمضانية التى يتخللها حفلات موسيقية وسهرات أسرية يتمتع بها الناس إلى جانب الروحانيات والصلاة والصوم فى هذا الشهر الكريم.
وفيما يتعلق بالفنون، فإن كل دولة لها مذاقها الخاص وفنونها التراثية التى لم تغب أو تندثر مع مر الزمن، كما أنها لاتزال تحظى بجمهورها بين الأجيال الجديدة، ومن بينها الموسيقى الأندلسية التى تُعرف كذلك بـ"موسيقى الآلة"، وهى أعرق تراث موسيقى بالمغرب، أدخلها الموريسكيون على إثر هجرتهم من الأندلس إلى المغرب الكبير، بعد أن قام بتطويرها كل من زرياب وبن باجة، وما زالت تتمتع بمكانة مرموقة فى المجتمع المغربى، وتُعزف فى الأفراح والمناسبات ضمن طقوس خاصة.
الموسيقى الأندلسية
أصول الموسيقى الأندلسية
تُعتبر الموسيقى الأندلسية الحالية نتيجة تمازج الموسيقى الشرقية والمغاربية حتى أصبح لها كيان خاص يميزها عن الموسيقى العربية، ويقول عبد العزيز بن عبد الجليل، فى كتاب "الموسيقى الأندلسية المغربية"، "تعتبر الموسيقى الأندلسية واحدة مـن الامتدادات والروافد التـى تفرعت عـن الموسيقى العربية فى مفهومها العام، ويعتبر الحديث عنها بمثابة الحديث عن لون خاص من ألوان الموسيقى العربية، ومن ثم فمن الطبيعى أن ترتبط هذه الموسيقى بالأصول نفسها التى تلتقى عندها أصناف الموسيقى العربية عمومًا، وإن تكن قد تفردت بخصائص ومميزات أسهمت عوامل شتى فى خلقها".
الموسيقى الأندلسية فى المغرب
الموسيقى الأندلسية خلاصة حضارات
وأضاف: "كسائر الألوان والنماذج الموسيقية التى أبدعتها العبقرية العربية فى ظل الانتشار الواسع للأمة الإسلامية، تعتبر هذه الموسيقى خلاصة امتزاج وتلاقح المعطيات الفنية النابعة من طبيعة موسيقى العناصر البشرية المتساكنة فى الأندلس وهى العرب والبربر والقوط والصقالبة، وإن الموسيقى العربية فى أشكالها وقوالبها لعهد ما قبل الإسلام وعهد الفتوحات الإسلامية الأولى كانت تشكل خلاصة ما أنجبته الممارسة العملية فى مجالات الغناء والتأليف والعزف بعد الانفتاح على المؤثرات الفارسية والهندية، انتقلت هذه الأشكال والقوالب إلى المغرب (الكبير) والأندلس مع العرب الفاتحين لتحمل معها ملامح أصيلة لاتزال آثارها واضحة بينة حتى اليوم وهى ملامح حفظت للموسيقى الأندلسية طابعها العربى على الرغم من استيطانها الجزيرة الإيبيرية قروناً عدة جعلتها على الدوام خاضعة للذوق العربى".
فيما، يقول عباس الجيرارى، أديب ومؤرخ وباحث مغربى:"الآلة" أو ما اشتهر بـ"الموسيقى الأندلسية"، هى كما يدل عليها اسمها، تعتمد الأداء الآلى القائم على الوتريات والصدميات وبصفة خاصة على الرباب والعود والطر (ضابط الإيقاع)، وإن كان هذا الأداء يرتكز على نصوص شعرية لضبط إيقاعاته، وخصوصاً من الموشحات والأزجال، وهى بناء متكامل محكم ومنظم يقوم على نوبات"، وذلك وفق تقرير لصحيفة "إندبندنت".
فرقة تعزف الموسيقى الأندلسية
فرقة مغربية تعزف الموسيقى الأندلسية
الموشحات والزجل
وابتكر عرب الأندلس "فن الموشح" عندما شعروا بضرورة التحرر من قيود أصول الموسيقى العربية كاحترام البحور والقافية، وهنا يقول الدكتور الجيرارى، "الموشح هو قصيدة شعرية ولكنها لا تخضع لوحدة البيت ولا تخضع كذلك لوحدة القافية، ولكنها مقسمة إلى أقسام أو مقاطع، بعضها يسمى "أقفالاً"، وبعضها يسمى "أبياتاً"، هذا النظام الذى يسير عليه الموشح يقتضى أن تكون الموشحة قائمة على مجموعة من الأقفال ومجموعة من الأبيات، الأقفال متشابهة فى الوزن ومتشابهة فى القافية، أما الأبيات فمتشابهة فى الوزن فى ما بينها ومختلفة من حيث القافية، أما الزجل فهو كالموشح مع فارق واحد، هو أنه باللغة العامية، وهو أيضاً كان خاضعاً للغناء ولمقتضيات هذا الغناء والأداء اللحنى"، فيما تقوم الموسيقى الأندلسية على مزج العزف الموسيقى وغناء موشحات وفق ترتيب خاص يسمى "النوبة".
الموشحات والزجل فى الموسيقى الأندلسية
"النوبة" والمهدى بن جعفر المنصور
ويعود أصل كلمة "نوبة" إلى عهد الخليفة العباسى المهدى بن جعفر المنصور (785-775)، إذ كان يخصص يوماً لكل مجال من مجالات الفكر والفن، وكان يشرف بنفسه على المسابقات، كان يقال مثلاً "اليوم نوبة الغناء" أى اليوم دَور الغناء، إلى أن أصبحت الكلمة تعنى فى عهد الخليفة هارون الرشيد (809-786) الوقت المخصص لكل مغن أمام الخليفة.
وأوضح الدكتور الجيرارى، أن "النوبة هى مجموع القطع أو الأطراف أو الأجزاء التى تشكل الأداء الموسيقى فى نطاق محدد، هذا العمل متكامل، يعنى مجموعة من المقطوعات ومن الألحان ومن الأنغام، بعضها يكمل بعضاً، كل ذلك أصبح يسمى "النوبة" وهذا هو المعنى الذى استقر فى الأندلس وارتبط بالموسيقى الأندلسية، باعتبار هذه النوبة مكوناً نغمياً أساسياً، هذه النوبات تلائم مختلف أوقات الإنسان على مر الأيام والفصول".
ويضيف أن بعض تلك النوبات ضاعت لأنها كانت تعتمد على عنصر أساسى وهو الارتجال الذى يكاد يكون من المميزات الأساسية للموسيقى الأندلسية التى انتقلت إلى أوروبا وغيرها، وكان عدد النوبات 24 بعدد ساعات اليوم الواحد، توافق كل نوبة ساعة من ساعات اليوم ولا تغنى إلا فى تلك الساعة الموافقة لها، ظل منها 11 نوبة بالمغرب، و13 نوبة فى تونس، و16 نوبة فى الجزائر.
عازف يؤدى ألحان الموسيقى الأندلسية
الطبوع والطباع فى الموسيقى الأندلسية
بينما يقول عبد الجليل، إن إدريس الإدريسى فى كتابه "المنتخبات الموسيقية"، يكاد ينفرد بتقديم محاولة أولية لتعريف "الطبع" فى الموسيقى الأندلسية بكونه "عبارة عن جزء من الطرب المشتمل على 24 جزءاً، وسُمى طبعاً لأنه يوافق من الطبائع البشرية ما يوافق".
ويضيف "يبدو أن الربط بين الطبوع والطباع جاء ليعكس أصداء نظرية قد ترجع أصولها الأولى إلى عهد فلاسفة اليونان ثم انتقلت إلى العرب من خلال ما ترجموه عن أولئك، ومن ثم شاعت فى كتب فلاسفة الإسلام الأولين كالكندى والفارابى وبن سينا، وانتشرت بعد ذلك بانتشار المعارف والنظريات الموسيقية، ولقد غدت أرض المغرب والأندلس مرتعاً خصباً لترويج نظرية العلاقة بين الطبوع والطباع".
فرقة للموسيقى الأندلسية فى المغرب
عبقرية زرياب
ويشار هنا إلى "أبو الحسن على بن نافع" المعروف بـ"زرياب"، الذى ولد فى العراق عام 777، وكان تلميذًا لموسيقار بلاط هارون الرشيد إسحاق الموصلى، إلى أن أصبح بارعاً فى أصول الموسيقى والغناء، وطلب الخليفة من الموصلى إتيانه بمغن جديد فقدم له زرياب، وحينها أُبهر هارون الرشيد ببراعة أبى الحسن فى الغناء وبثقافته الفنية الغزيرة ما أثار حقد معلمه حتى هدده بالاغتيال إن لم يرحل عن بغداد.
هاجر زرياب إلى قرطبة بالأندلس فى عام 822 بعد مروره ببعض المدن كالقيروان عاصمة الأغالبة، لكن أميرهم زيادة الله الأول (816 -837)، طرده عندما غنى له شعرًا لعنترة العبسى، والذى اعتبره الخليفة إهانة له، وعند وصوله إلى قرطبة لقى زرياب ترحيبًا من الخليفة عبد الرحمان الثانى، الذى أُعجب بمستواه الفنى إلى أن جعله من حاشيته، وعُرف عن زرياب الأناقة واللباقة وأثر بشكل كبير فى حياة الأندلسيين إذ علمهم الكثير من جوانب فن العيش، وغيّر العديد من عاداتهم فى اللباس والنظافة والأكل، حتى قيل انه أخرجهم من حياة البداوة إلى الحضارة.
فرق الموسيقى الأندلسية فى المغرب
زرياب أول من أدخل الموسيقى الدنيوية الى أوروبا
وأسس أبو الحسن، أول مدرسة للموسيقى فى الغرب الإسلامى بقرطبة فى عام 825، وتورد بعض المصادر التاريخية أن المدرسة استقبلت بالإضافة إلى العرب المسلمين طلبة من مختلف الدول الأوربية الذين عادوا إلى بلدانهم متقنين أصول الموسيقى العربية وآلاتها، وهو ما اعتُبِر أساس الثورة الفنية الأوربية فى عصر النهضة، كما يُعتبر زرياب أول من أدخل الموسيقى الدنيوية إلى أوروبا التى كانت تعرف آنذاك بالموسيقى الدينية فقط وهى ما كان يعزف فى الكنائس.
وأدخل زرياب أيضًا العديد من التعديلات على مجال الموسيقى بالأندلس، وأضاف الوتر الخامس لآلة العود، وكان أول من أدخل تلك الآلة الى الأندلس حيث أصبحت الآلة الأساسية فى غرب أوروبا إلى أن اخترعت آلات أخرى كالبيانو فى بداية القرن الثامن عشر، كما جعل مضارب آلة العود من ريش النسور بدل الخشب، وأضاف مقامات موسيقية جديدة لم تكن معروفة فى السابق، بالإضافة إلى ابتكاره طريقة افتتاح الغناء بالأصوات بدل الأنغام الموسيقية، كما يُعتبر واضع الأسس الفنية التى أقيم عليها فن الموشحات، وظل زرياب يُطور المجال الموسيقى إلى أن توفى بقرطبة فى العام 845.
بالإضافة إلى تأثير زرياب، يُرجع الدكتور الجيرارى، فضل تقنين وضبط الموسيقى الأندلسية إلى "ابن باجة"، إذ يقول "إن هذه الموسيقى، التى هى أشكال مختلفة ومتباينة، سوف يُهيَّأ لها فى القرن الرابع وبصفة خاصة القرن الخامس الهجرى من يضبطها، ومن يقنّنها، وهنا محطة أخرى فى غاية الأهمية وهى المحطة التى يمثلها الفيلسوف الأديب الفنان الموسيقى بن باجة الذى سوف يقعد هذه الموسيقى، وسوف ينظر فيها مستفيداً مما كتبه الفارابى والكندى فى المشرق، وسوف يعطى لهذه الموسيقى وللغناء فى الأندلس، قالباً معيناً وإطاراً مضبوطاً، بل نظرياً كذلك".
عزف على الكمان
دور الموريسكيين فى تطوير الموسيقى الأندلسية
ومن التأثيرات التى دخلت على الموسيقى الأندلسية، كانت من قبل الموريسكيون، وهم مسلمون من عرق عربى أمازيغى أوروبى، والذين استقروا بمدن قشتالة، وبلنسية، وأراجون، وغرناطة، وعانوا لقرون من الاضطهاد والتقتيل منذ بداية ضعف الخلافة الإسلامية بالأندلس على إثر سقوط بعض المدن فى يد الإسبان، وقاوموا موجات التنصير وعانوا من محاكم التفتيش، وهناك منهم من نُزِع منهم أبناؤهم قصّراً وتنصيرهم عبر تربيتهم فى الكنيسة، وهاجر الموريسكيون من الأندلس عبر دفعات، فى حين ظل بعض منهم هناك ممن تنصروا واندمجوا فى المجتمع الإسبانى.
وبعد سقوط غرناطة آخر معاقل الخلافة الإسلامية بالأندلس عام 1492، قرر الملك فيليب، تحت ضغط الكنيسة، إصدار قرار الطرد النهائى للموريسكيين من الأندلس فى سبتمبر 1609، وذلك فى ظل رفضهم كل محاولات التنصير، فتوجه معظمهم إلى المغرب، بينما استقر بعضهم فى بلدان أهمها الجزائر وتونس.
ونقل هؤلاء المهاجرون إلى المجتمعات التى عاشوا فيها مختلف مناحى حضارتهم العلمية والاجتماعية والفنية، ومنها الموسيقى الأندلسية التى كانت فى أوج تطورها، ويقول المؤرخ المغربى محمد بن عزوز، "إن المغرب استقبل أكبر عدد من الموريسكيين المهجرين قسراً، فهو البلد العربى والإسلامى الذى توجد به أكبر نسبة من العائلات الموريسكية، وهناك مدن أندلسية حقيقية مثل تطوان وشفشاون".
مدارس الموسيقى الأندلسية
وأخيرًا، ظهرت ثلاث مدارس للموسيقى الأندلسية، وهى المدرسة الإشبيلية التى ازدهرت فى ليبيا وتونس والتى تعرف باسم "المالوف"، والمدرسة الغرناطية التى انتشرت فى الجزائر، بالإضافة إلى المدرسة البلنسية التى ازدهرت فى المغرب إلى جانب المدرسة الغرناطية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة