»منذ سنىّ الأولى كان أبى هو مناط حبى وإعجابى، وكان أشوق ما يصبو إليه أن يرانى رجلا من رجال القانون، من أجل هذا مال بى إلى كلية الحقوق، ولم تكن بى رغبة إلى تلك الدراسة، ولم تكن الشهور الست بتلك الكلية كفيلة بأن تجذبنى إليها، فكم كنت أحمل نفسا تواقة إلى الأدب والفن».. بهذه الكلمات بدأ الدكتور ثروث عكاشة، أول وزير للثقافة المصرية، حديثه فى أول فصول مذكراته، عن شغفه بالأدب والفن، ومدى تأثير هذين الفنين على حياته، ليكون بذلك السبيل وراء النهضة الثقافية التى شهدتها مصر فى عهده، وبالتأمل فى «مذكراتى فى السياسة والثقافة» للدكتور ثروت عكاشة، الصادر عام 2004 عن مكتبة الأسرة التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، نرى أننا أمام رجل وطنى من الطراز الأول، يحمل بداخله ثقافة عميقة تقدر حضارة ذلك البلد، فهو الضابط الشاب الذى خرج فى صفوف الضباط الأحرار حالمًا بمستقبل لمصر على يد أبنائها، وهو المثقف الذى قدر له أن يكون أول وزير للثقافة، فكان صاحب أكبر بصمة فى تاريخ الوزارة منذ إنشائها فى ستينيات القرن المنقضى.
ثروت عكاشة.. أدار معركة مع بلاد العم سام لحماية آثار مصر.. "على هامش السيرة" حببه فى قراءة الأساطير وتمنى ترجمة سيرة عمر بن الخطاب للإنجليزية حتى تسلم أوروبا كلها .. وكتاب وراء فكرة إنقاذ آثار النوبة
الإثنين، 13 مايو 2019 11:00 ص
ثروت عكاشة
كتب محمد عبد الرحمن
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نشأ ثروت عكاشة فى منزل مهتم بالأدب، وبيئة تشجع على القراءة، وكان والده شديد الميل للقراءة، وهو ما شجع عليه ابنه، فكان الأب شغوفا بعميد الأدب العربى طه حسين، وخاصة كتاب «على هامش السيرة»، وكان ذلك ما حفز «ثروت» فى صباه على أن يكون صاحب مكتبة على غرار والده المثقف، فكانت ميوله تميل إلى أدب الأساطير، وكان ذلك الأثر الذى تركه فيه كتاب طه حسين سالف الذكر، حيث غرس فيه الميل للأساطير والتنقيب عن سير العطاء شرقا وغربا، وكان أشد ما جذبه هو سيرة الفاروق عمر بن الخطاب، فلقد تمثل له أن عمر، ما كتب عنه بطل عز وجوده على مر التاريخ، فهو رجل إن عددنا القدوات هو على قمتها، ولطالما كان حلم ثروت عكاشة الصغير، حين يكبر هو ترجمة سيرة عمر بن الخطاب إلى الإنجليزية، حيث كان يرى أن أوروبا إذا قرأت سيرته وفعلوا ما قام به لعادوا جميعا مسلمين.
فى نهاية عام 1961، وبينما كان اكتمل بناء التليفزيون المصرى، كان قرار بإنشاء وزارة الإعلام، لتكون مسؤولة عن إدارة الملف الإعلامى بالكامل، إلا أن ما حدث كان ازدواجا فى مهام الوزارتين، حيث قام وزير الإعلام بإنشاء فرقة للمسرح من شأنها التجول بين الجماهير وليس للتسجيل فى الاستوديوهات، وهو ما يعتبر أمرا خاصا بوزارة الثقافة، فكان حرصًا من الوزير ثروت عكاشة أن انتهز فرصة أول اجتماع للحكومة وأن يوضح أن هناك تصارعا بين أجهزة حكومية واحدة تعمل لغرض واحد يؤدى إلى التناقض والتضارب.
وهو ما دعا وزير الإعلام حينها الدكتور عبدالقادر حاتم، لأن يزوره فى مكتبه، للتفاهم حول الأمر، لكن وزير الثقافة اندهش من رأى وزير الإعلام بأنه يؤمن أن التنافس ضرورى فى الأعمال الفنية والأدبية وليس حكرا على الثقافة، وهو ما رفضه عكاشة واعتبره تدخلا من شأنه التأثير بالسلب على الأوضاع الثقافية، وحاول عبدالحكيم عامر، التوسط لحل الأمر، لكن إصرار ثروت عكاشة وقف حال دون ذلك، وظل وزير الإعلام، على رأيه يقوم بالتدخل فى الشؤون الثقافية والفنية، لكن ثروت عكاشة لم ير أن ذلك خصومة على ما هو اختلاف فى وجهات النظر، سعيا منه للمصلحة العامة، ودفاعا عن مبدأ، وهو ما دفعه إلى التقدم بطلب إعفاء من منصبه الوزارى، ورغم رفض «ناصر» أكثر من مرة لكنه فى النهاية وافق وعرض عليه منصب رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى، لكنه بعد ذلك تراجع وولاه رئاسة بعثة مصر أمام اليونسكو من أجل استكمال ما بدأ فيه من أجل ملف إنقاذ آثار النوبة.
يروى الدكتور ثروت عكاشة، واقعة من أغرب الوقائع التى حدثت فى تاريخ المعارض الأثرية الخارجية، فبينما كان الوزير يبحث عن تمويل أمريكى لمشروع إنقاذ آثار النوبة، تقرر إقامة معرض يضم قطع الملك الذهبى توت عنخ آمون فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى الثالث من نوفمبر عام 1961، هو المعرض الذى طاف عدة مدن أمريكية، ونال إعجاب العديد من الأمريكيين الذين طالبوا بعرض تلك التحف فى مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وبعد أن عرضت التحف فى واشنطن جاء الدور على بنسلفانيا ثم جامعة بل بنيوهافن وغيرها من المدن الأمريكية، وفى إحدى الجولات وبينما المعرض يحقق نجاحا يثير الكثير من الأمل، إذ بحادث عارض اكتشف فى 13 مارس 1962، وهو سرقة العصا المثبتة فى أحد تماثيل الشوابتى الخاصة بالملك توت عنخ آمون، ويبلغ طولها اثنى عشر سنتيمترا، أبلغ بذلك السفير الأمريكى دكتور جون بادور، حيث تم اكتشاف الحادث عند فتح الصناديق للعرض فى ولاية تكساس، ورأى الدكتور «عكاشة» أنه لا يمكن تجاهل ذلك مهما كان صغر حجم القطعة، ولا يمكن السكوت عن ذلك أمام الرأى العام، فبادر بإرسال الأمر إلى رئاسة الجمهورية، يطالب بنشر بيان للرأى العام، ولم يتلق ردا، ففسره على أنها موافقة ضمنية على النشر، وما إن بادر بنشر البيان ونية وزارة الثقافة فى استرجاع المعرض على الفور، لعدم اتخاذ الحكومة الأمريكية اللازم لحماية القطع المرسلة، تلقى خطابا من السفير الأمريكى بالقاهرة، يخبره بأنه تم العثور على العصا.
الغريب بحسب ما يذكره الوزير السابق، أن صحيفة الأهرام، هاجمت بيان الوزارة، واعتبرته تسرعا فى الإعلان عن سرقة العصا، دون معرفة كل ملابسات الحادث، معتبرة لغة البيان المهددة بسحب المعرض هو عقاب للشعب الأمريكى، لكن الحقيقة أن ما حدث واكتشفته الوزارة هو غير ذلك، حيث قام الجانب الأمريكى بعمل عصا مشابهة ووضعها فى المعرض حتى لا يتم إيقافه، واستندت إليه الأهرام باعتبار العصا الحقيقية، بينما ظل البوليس الأمريكى يبحث عنها، إلى أن تم وجودها، ويرجح أنها فقدت أثناء تنقل المعرض من ولاية إلى الأخرى.
ورصد وزير ثقافة مصر الأسبق، خلال مذكراته التى صدرت عن دار الشروق تحت عنوان «مذكراتى فى السياسة والثقافة»، بداية علاقته بملف آثار النوبة، وذلك عقب توليه مهام وزارة الثقافة والإرشاد القومى فى نوفمبر عام 1958، وفجر الوزير الأسبق مفاجأة، حيث كشف عن طلب الولايات المتحدة الأمريكية شراء معبد أبو سمبل، حيث يقول: «زارنى السفير الأمريكى فى القاهرة يصطحبه مستر روديمر مدير متحف المتروبوليتان بنيويورك الذى بادرنى قائلا: جئت أشترى واحدا أو اثنين من معابد النوبة المحكوم عليها بالغرق بعد بناء السد العالى»، وتابع: «وقد أثارتنى هذه الرغبة المفاجئة وضقت بأن يدور فى خلد أحد أن يكون تراث أسلافنا مما يباع ويشترى» فرددت عليه معاتبا «إنه لجدير بمتحف المتروبوليتان أن يبادر بالعون العلمى لإنقاذ هذا التراث الإنسانى بدلا من التفكير فى شرائه».
كانت تلك الواقعة بداية ارتباط الدكتور ثروت عكاشة بمعبد أبوسمبل ومعابد فيله، والتى قرر زيارتها بعد ذلك اللقاء، كما كشف فى مذكراته، واصطحب معه فى تلك الزيارة كلا من الدكتور أحمد بدوى، رئيس جامعة عين شمس، ومدير مركز تسجيل الآثار فى ذلك الوقت، والمهندس محمد مهدى، مدير الإدارة بمصلحة الآثار آنذاك، حيث ظلوا لمدة أسبوعين، يتنقلون من معبد إلى آخر، ويزورون البعثات الأثرية هناك، وهنا قال: «فزعت عندما اكتشفت أن ما كان يجرى هناك كان مقصورا على تسجيل وتوثيق هذه المعابد وحصر بعض المواقع الأثرية فحسب»، وتابع: «كيف يترك هذا التراث لتغمره مياه النيل؟».
وكشف «عكاشة» عن الكتاب الذى ألهمه ضرورة الحفاظ على آثار النوبة، حيث اصطحب معه خلال تلك الجولة كتابا وصفه بالشائق للأديب الفرنسى الشهير بيبرلوتى تحت عنوان «موت فيله» والذى ناشد فيه الأديب الفرنسى المثقفين المصريين بأن يهبوا للذود عن تراثهم متخذا من جزيرة فيله لؤلؤة مصر وإحدى عجائب الدنيا رمزا لموت مصر القديمة، وذلك حين وجد نفسه – بيبرلوتى – فى قاربه وسط بحيرة يحتضنها خزان أسوان والجبال الشاهقة كأنها مدرجات رهيبة تحاصر البحيرة، وتبرز من جزيرة فيله الغريقة قمتها التى يتربع عليها معبد إيزيس والجوسق الرخامى الذى بان له كأنه مرفأ حزين»، وهنا قال «عكاشة»: «أخذت أقلب الفكر وأعمل الذهن فى أعقاب هذه الرحلة، وزادنى التفكير تصميما على ضرورة الوصول إلى حل، مستعرضا الوسائل المتاحة بينما العقبات تترى فى وجه كل اقتراح وتحول بشدة وعنف بينى وبين الهدف الكبير الذى بدا واضحا ساطعاً، وهو حتمية إنقاذ التراث المهدد بالغرق»، وهو الحلم الذى تحقق بالفعل بعد حملة قادها عكاشة نفسها بمشاركة اليونسكو وبمباركة من الزعيم المصرى الراحل جمال عبد الناصر الذى أولى هذه الموضوع اهتماما خاصا، حتى افتتح المعبد رسميا بعد نقله فى 22 سبتمبر عام ١٩٦٨.
مشاركة
الموضوعات المتعلقة