فى العام 2003 سعت إيران للتهدئة مع الولايات المتحدة، كان البرنامج النووى قد قطع شوطًا مُعتبرًا، وبدأ الموقف الغربى يأخذ مَنحىً أكثر سخونة، بينما حاولت طهران امتصاص الغضب المُتصاعد تجاهها، عبر اتّفاق مع الثلاثى الأوروبى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومغازلة الإدارة الأمريكية بالإغراءات والترضيات.
التقارير التى نشرتها صحف أمريكية وأوروبية لاحقًا، أشارت إلى عرض طهران التخلّى عن طموحها النووى، والاكتفاء ببرنامج سلمىّ لأغراض البحث وإنتاج الطاقة، مُقابل تخفيف الضغوط واستعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع واشنطن منذ اقتحام السفارة الأمريكية عقب الثورة الإسلامية، لكن إدارة جورج بوش المزهوّة بآثار احتلال العراق وقتها رفضت العرض، لتبدأ موجات صدام مُتلاحقة لم تهدأ حتى الآن.
اختارت الولايات المتحدة مواجهة الطموح الإيرانى بالحصار الاقتصادى، ففرضت عقوبات مُتتابعة على التجارة وصادرات النفط والغاز، والشركات المتعاونة من دول أخرى، لم تهدأ حدّتها إلا بتوقيع الاتفاق النووى مع الدول الخمس الكبرى فى 2015، بفضل سياسات إدارة «أوباما» المُتساهلة مع المدّ الدينى فى الشرق الأوسط، لكن انسحاب «ترامب» من الاتفاق قبل سنة أعاد الأمور إلى ملعب الجمهوريين ومعادلة بوش.
خبرات السنوات الطويلة أكدت للبيت الأبيض أن العقوبات الاقتصادية ليست رادعًا كافيًا للملالى، حتى لو اضطرت للجوء إليها مرّات، آخرها الحزمة التى طالت صادرات التعدين أواخر الأسبوع الماضى. فإيران احترفت اختراق الحصار بمعاونة تركيا ودول آسيوية، وهو ما كشفه تاجر الذهب التركى الشهير رضا ضراب فى تحقيقات أمريكية، عن تهريب النفط والغاز الإيرانيين عبر ميناء «جهان» بمعاونة حكومة أنقرة، والأمر نفسه اعترف به وزير خارجية طهران، جواد ظريف، خلال وجوده فى واشنطن مؤخّرًا، بقوله إن إيران تحمل دكتوراه فى الالتفاف على العقوبات!
المشهد الراهن يبدو ساخنًا إلى الحدّ الأقصى، لا يرتبط الأمر بالبرنامج النووى والصاروخى فقط، وإنما بنشاط إيران غير المحمود فى العراق واليمن وسوريا وليبيا وقطاع غزّة، وامتدادها المُبالَغ فيه حاليًا فى قطر، التى تضمّ نقطة الارتكاز الأمريكية الأهمّ فى المنطقة، والأخطر تمادى طهران فى مُروقها المحمول على وَهم القوّة، بالتهديد بمهاجمة مراكز إنتاج النفط فى الخليج، وإغلاق مضيق هرمز، إضافة إلى توجيه الحوثيين لاستهداف خطوط الملاحة فى المحيط الهندى وصولاً إلى مضيق باب المندب، وترجمة تلك التهديدات عمليًّا بتخريب 4 سفن تجارية فى المياه الإقليمية للإمارات مساء الأحد الماضى، ما يعنى وضع قرابة 20% من النفط والتجارة الدولية فى مرمى النزوات الإيرانية، ويعنى بالضرورة أنه لا مجال للمغامرة بترك الباب مفتوحًا على تلك الاحتمالات السوداء.
بالتوازى مع قطار التطوّرات المُتسارع، لا يبدو أن طهران بصدد تهدئة تحرّكاتها المزعجة فى سوريا، فخلال الأسابيع الماضية تردّدت تصريحات عن اقترابها من جبهة الجولان، ووضع إسرائيل فى مرمى نيرانها، وتأكّد التهديد بإزاحة قائد الحرس الثورى محمد على جعفرى، لصالح حسين سلامى المحسوب على جبهة الصقور وأصحاب خطاب الحرب، وتصريح الأخير، الجمعة، بأن إيران لن تتفاوض مع واشنطن، بعد أقل من 24 ساعة على حديث «ترامب» عن ضرورة انخراط طهران فى محادثات جادّة للوصول إلى اتفاق نووى جديد.
جبهة إيران الداخلية ليست فى حالة مثالية، هناك صراعات فى أروقة السلطة وبين رجال «خامنئى»، ولا يبدو الشارع راضيًا عن أداء المؤسَّسات السياسية والأمنية، لذا من غير المُتوقَّع أن يُؤازر الشعب نظام الحكم أو أية جهود رسمية لتفكيك الموقف الأمريكى، بل على العكس، تزداد خطورة أن يتحرّك الإيرانيون مع تنامى تلك الضغوط، لاستعادة احتجاجات العامين الماضيين التى أحبطتها ميليشيات «الباسيج»، خاصة فى ظلّ اقتصاد مُتراجع وعملة منهارة تمامًا، ومُعدّلات تضخّم وبطالة لم تعد مُحتملة، ونزوات خارجية تُبدِّد مليارات الدولارات فى العراق واليمن وسوريا وغزّة، وكل ذلك يترافق مع إدارة تنفيذية ضاغطة ومناخ سياسى مُطّرد التراجع، وانعدام شبه كامل للحريات.
ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو لم يستبعدا الصدام العسكرى، وتحريك حاملة الطائرات لينكولن والمدمرة أرلينجتون ونقل قاذفات B52 الشهيرة إلى قاعدة العديد القطرية، لتكون على مرمى حجر من إيران، تأكيد لاتجاه الأمور إلى حيِّز مُزعج. ستمتدّ حروب التصريحات وقد تتطوَّر إلى مناوشات محدودة، ولكن فى الغالب لن تغامر طهران بالذهاب إلى المدى الأقصى، فحالتها لا تحتمل حربًا واسعة المدى، ما يُرجح لجوءها لإشعال الأمور فى الجبهات الفرعية، عبر ميليشياتها فى العراق وسوريا، أو عصابات الحوثيين باليمن، أو من خلال حزب الله على الجبهة اللبنانية، أو أن ترضخ أمام غضب واشنطن، وهذا الرضوخ قد يُجنّبها الحرب، التى كان مُحتملاً أن تخوضها مع اقتحام السفارة فى 1979، لكنه قد يُشجّع الجبهة الداخلية المشتعلة على بدء حربها المؤجّلة منذ أربعين سنة أيضًا.
ما يبدو جَليًّا أمام كل الاحتمالات، أن الشهور المُتبقّية من 2019 لن تكون رحيمة بنظام الملالى، وأنه ينتظر حربًا من الخارج أو الداخل، وقودها البارود أو الغضب المكتوم. وتلك الحرب التى تأخَّرت 40 سنة قد تأكل اللحى والعمائم، وتُطيح بما تبقّى من سيطرة الرجعية الدينية على بلاد فارس.