دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم. وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
«نحن لا نستسلم ..ننتصر أو نموت»، عبارة قوية من عمر المختار، أنهى بها حياته، مجاهدا ومدافعا عن وطنه، وقبل الدخول فى تفاصيل سرد ما قام به الراحل عمر المختار، جعلته بطلا قوميا عربيا، وقف فى وجه الاحتلال لتحرير وطنه، لك أن تعرف أنه بدأ معركة تحرير وطنه، وعمره 53 عاما، لتبقى الرسالة، أن الأحرار المدافعين عن وطنهم، يأتون دائما فى الوقت المناسب، ويحتفظ لهم التاريخ، بالكثير من العبر والمواعظ، فطوال 20 سنة قضاها عمر المختار، فى الدفاع عن وطنه، كانت سير الكتاب تسجل تلك العظمة بكل التفاصيل، التى يعشقها الليبيون، والوطن العربى بأسره، ورغم مرور سنوات على وفاته أو إعدامه بالمعنى الدقيق، إلا أن ليبيا مازالت تنزف الدماء، فى انتظار صحوة المختار، لنجدتها من كبوتها.
عرف عن عمر المختار جرأته وقوته، فكان الشيخ الذى يبلغ عمره 53 عاما، قد بدأ النضال ضد الإيطاليين المستعمرين لبلده، وظل يناضل طوال السنوات يستنزف قوتهم، حتى قبضوا عليه ليعدموه، وينشروا صورته لكسر عزيمة المقاومة الليبية، وظلت ذكرى الرجل فى وجدان الشعب العربى، حتى جاء المخرج مصطفى العقاد، وهو مخرج أمريكى من أصول سورية، ليخلد سيرته فى فيلم شهير بعنوان « أسد الصحراء» عام 1981، اختار له الممثل أنطونى كوين، بطلا يجسد شخصية عمر المختار، وهو نفسه المخرج الذى أنتج وأخرج الفيلم العالمى « الرسالة» بنسختيه.
مذكرات مسؤول إيطالى تؤكد: عمر المختار رجل ليس ككل الرجال
فى مذكرات غراتسيانى، وهو القائد الإيطالى المسؤول عن المستعمرات فى ليبيا، يقول: «عندما حضر أمام مكتبى، يقصد المختار، تهيَّأ لى أننى أرى فيه شخصية آلاف المُرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامى بالحروب الصحراوية، وبالإجمال يخيل لى أن الذى يقف أمامى رجل ليس كالرجال: له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبى نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح».
بداية رحلة عمر المختار مع السنوسيين جعلته قائدا لليبيا بعد ذلك
فى سيرة الشيخ الشهيد عمر المختار تبرز علامات مضيئة تنصف تاريخه، فهو شخص ملم بالقرآن الكريم، وحافظ لدروب الصحراء، ومؤتمن على الخلق، وقادر على اتخاذ القرارات الهامة، كل تلك جعلته مهيئا لأن تنشأ علاقة خاصة مع السنوسيين، وهى حركة ليبية كبيرة، وقفت فى وجه الاحتلال، وكانت لها سطوتها على ليبيا، حتى أن عمر المختار كان نائباً عن المهدى السنوسى فى السودان لعدة سنوات.
لما رأى منه السنوسى من صفات حميدة كان يقول وسط الناس: «لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم»، تلك العبارة وغيرها تؤرخ لحقيقة عمر المختار، ففى مشهد التحقيق مع بعد القبض عليه يقول للمحقق: «نعم قاتلت ضد الحكومة الإيطاليَّة، لم أستسلم قط، ولم تخطر ببالى قط فكرة الهرب عبر الحدود، اشتركت فى معارك كثيرة لا أستطيع تحديدها، لا فائدة من سؤالى عن وقائع منفردة، وما وقع ضد إيطاليا والطليان، منذ عشر سنوات وحتى الآن كان بإرادتى وإذنى، كانت الغارات تُنفَّذ بأمرى، وبعضها قمت به أنا بنفسى، الحرب هى الحرب، فهل تتصورون أن أبقى واقفًا دون إطلاق النار أثناء القتال».
عمر المختار كان نواة لتشكيل قوى شعبية لمكافحة الاحتلال الإيطالى
ذاع صيت عمر المختار فى ليبيا، وذلك لمواجهة الايطاليين، فحين دخل الايطاليون بنغازى عام 1911، وعلم «المختار» بخبر نزول الإيطاليين، جند الأهالى من قبيلة العبيد لمقاومة الإيطاليّين، ونجح بجمع 1000 مقاتل معه، وأسَّس معسكراً خاصًا له وأصبح المعسكر قاعدةً لهم يخرجون منها ويغيرون باستمرارٍ على القوات الإيطالية، وظل عمر المختار يقاتل الإيطاليين أو «الطليان» كما يطلق عليهم، حتى وصول أحمد الشريف السنوسى إلى درنة فى شهر مايو من عام 1913 فاستلم هو القيادة وظلَّ عمر المختار عوناً كبيراً له.
تابع عمر المختار دعوة أهالى الجبل الأخضر للقتال وتجييشهم ضد الطليان، وفتح باب التطوُّع للانضمام إلى الكفاح ضدهم، وأصبحت معه لجنةٌ فيها أعيانٌ من مختلف قبائل الجبل، واتَّبع أسلوب الغارات وحرب العصابات، فكان يصطحب معه 100 إلى 300 رجل فى كل غارةٍ ويهجم ثم ينسحب بسرعة، ولم يزد أبداً مجموع رجاله عن نحو 1000 رجل، مسلحين ببنادق خفيفةٍ عددها لا يتعدَّى 6000، وقد شكَّل هذا بداية الحرب الضروس بين عمر المُختار والطليان، تلك الحرب التى استمرت 22 عامًا ولم تنتهى إلّا بأسر المختار وإعدامه.
هجمات عمر المختار تحرج الجيش الإيطالى المحتل أمام شعبه
وجد عمر المختار نفسه قد تحوَّل من معلم للقرآن إلى مجاهد يقاتل فى سبيل دينه وبلاده لدفع الاحتلال عنها، وكان قد اكتسب خبرة كبيرة فى أساليب وتكتيكات الحروب الصحراويَّة أثناء قتاله الفرنسيين فى تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافية الصحراء وبدروبها ومسالكها وكل ما يتعلَّق بها، فاستغل هذه المعرفة وتلك الخبرة ليحصل على الأفضليَّة دوما عند مجابهته الجنود الإيطاليون غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها.
أخذ المختار يقود رجاله فى حملاتٍ سريعة على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة، فيضربوهم ضرباتٍ موجعة ثم ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء، وعمل المجاهدون الليبيّون على مهاجمة الثكنات العسكريَّة الواقعة على أطراف الصحراء، وإيقاع الرتل وراء الرتل فى كمين، وقطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالى، وقد أصابت هذه الهجومات المسؤولين العسكريين الإيطاليين بالذهول فى غير مرة، وأُحرج الجيش الإيطالى أمام الرأى العام فى بلاده بعد أن لم يتمكن من إخماد حركة بعض الثوار البدو غير المدربين عسكريا.
عام 1923 فارق فى تاريخ ليبيا بعد نقض الإيطاليين لعهودهم
فى عام 1923 وبعد أن عاشت مستعمرة ليبيا الإيطالية لعدّة سنواتٍ فى هدوء نسبيّ مع ضعف فى سيطرة الطليان، قررت الحكومة الإيطالية تغيير سياستها اتّجاه ليبيا جذريا، فقررت قلب سياستها مع الحركة السنوسية من الحوار والتفاهم إلى الحرب والإخضاع بالقوة، وألغت جميع الاتفاقيات السابقة التى كانت قد أبرمتها مع الليبيين وبدأت هجوما شاملاً على معاقل الجهاد، مما أدى إلى تفجر حرب عنيفة فى أنحاء الجبل الأخضر بعد هدوء كان قد دام لعدة سنوات، واستمرت الحرب فى الأعوام التالية، لتزداد شدة وعنفاً عاماً بعد عام.
عمر المختار يؤسس معسكرات لتدريب القبائل على مقاومة الاحتلال الإيطالى
لمع اسم عمر المختار كقائدٍ بارع يتقن أساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل، فى الفترة الممتدة بين عامى 1924 و1925، التى نشبت فيها مناوشات عديدة ومعارك دامية بين الثوار والقوات الإيطالية، ووسع المجاهدون نشاطهم العسكرى فى الجبل الأخضر وأخذ البدو من أبناء القبائل ينضمّون إلى صفوف المجاهدين.
وبادرت القبائل بإمداد هؤلاء بما يحتاجون من مؤنٍ وعتادٍ وأسلحة، وكان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام عمر المختار، وكان النواة الأولى وحجر الأساس لمعسكرات الجبل الأخضر الثلاثة، وكان عمر المختار يُلقَّب بنائب الوكيل العام، وكان هناك مجلس أعلى استشارى فى المعسكر يترأَّسه عمر المختار ويضم مختلف شيوخ وأعيان القبائل، كما كان هناك نظام رتب عسكرية.
وقام عمر المختار بتأسيس معسكر للمجاهدين فى الجبل الأخضر، وأصبح يتولَّى بنفسه إدارته والإشراف على تدريب المقاتلين وتنظيم هجماتهم، ثم اتَّخذ لاحقاً منطقة شحات قاعدة عسكرية له ولرجاله.
عمر المختار يخطب فى أتباعه: ليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطاليَّة شريفة
ما أن تجلى لعمر المختار صحَّة ما اعتقد به منذ البداية، وهو عدم جدوى المفاوضات السياسيَّة مع الدولة المُستعمرة، حتى خاطب المجاهدين وأبناء شعبه قائلًا: «فليعلم إذًا كل مجاهد أنَّ غرض الحكومة الإيطاليَّة إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك».
وأضاف فى كلمته: «ليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطاليَّة شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمى إلى القضاء على كل حركة قوميَّة تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسى وتقدمه، فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوبٌ تعرف أن فى سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخصٍ وغال»، ثمَّ ختم المختار هذا النداء بقوله: «لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ما هى عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع».
قائد القوات الإيطالية: لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدًا نأتى برأسه
فى شهر أكتوبر سنة 1930 تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين فى معركة كبيرة عثروا عقب انتهائها على نظّارات عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلًا فى ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار ما زال على قيد الحياة، وأصدر غراتسيانى منشورًا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضى على «أسطورة المختار الذى لايقهر أبدًا» وقال متوعدًا: «لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدا نأتى برأسه»، حتى قبض عليه فى سبتمبر 1931.
يقول غراتسيانى فى مذكراته أنَّه خلال الرحلة إلى بنغازى تحدَّث بعض السياسيين مع عمر المختار ووجهوا إليه الأسئلة، فكان يجيب بكل هدوء وبصوت ثابت وقوى دون أى تأثر بالموقف الذى هو فيه، وقال أيضًا: «هذا الرجل أسطورة الزمان الذى نجا آلاف المرات من الموت ومن الأسر واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام، لأنه الرأس المُفكر والقلب النابض للثورة العربيَّة «الإسلاميَّة» فى برقة، وكذلك كان المُنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة والآن وقع أسيرًا فى أيدينا».
القوات الإيطالية تحرص على محاكمة سريعة وصورية لعمر المختار
حرصت القوات الإيطالية على محاكمة فوريَّة والإعدام بصورة صاخبة ومُثيرة، كما جاء فى برقيَّة دى بونو وزير المستعمرات إلى بادوليو حاكم ليبيا، فيقول غراتسيانى حديثه: «عندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء كأنَّ هالة من نور تُحيط به، فارتعش قلبى من جلالة الموقف، أنا الذى خاض المعارك والحروب العالميَّة، والصحراويَّة، ولُقبت بأسد الصحراء، ورُغم هذا فقط كانت شفتاى ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرفٍ واحد، فانتهت المُقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه للمُحاكمة فى المساء، وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمُصافحتى ولكنَّه لم يتمكن لأن يديه كانت مُكبلة بالحديد، لقد خرج من مكتبى كما دخل علىَّ، وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير».
15 سبتمبر 1931 وقائع محاكمة البطل الشهيد عمر المختار
فى الساعة الخامسة مساءً فى 15 سبتمبر 1931 جرت محاكمة عمر المختار التى أعد لها الطليان مكان بناء برلمان برقة القديم، وكانت محاكمة صورية شكلًا وموضوعًا، إذ كان الطليان قد أعدوا المشنقة وانتهوا من ترتيبات الإعدام قبل بدء المحاكمة وصدور الحكم على المختار، وجىء بعمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلًا بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب، وأُحضر أحد التراجمة الرسميين ليتولّى الترجمة للمختار وللقضاة، فلمَّا افتتحت الجلسة وبدأ استجواب المختار، بلغ التأثر بالترجمان، حدًا جعله لا يستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة باستبعاده وإحضار ترجمان آخر.
محامى عمر المختار: هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم
وعندما جاء دور المحامى المعهود إليه بالدفاع عن المختار، وكان ضابطًا إيطاليًّا شابًا من رتبة نقيب يُدعى روبرتو لونتانو، حاول أن يُبقى على حياة المختار، فطالب بالحكم عليه بالسجن المؤبَّد نظرًا لشيخوخته وكِبر سنّه، متحججًا بأنَّ هذا عقاب أشد قساوةً من الإعدام، غير أنَّ المدعى العام، تدخل وقطع الحديث على المحامى، وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته، مستندًا فى طلبه هذا إلى أنَّ الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته ووافقت المحكمة.
وقف حينها المحامى وقال: «إنَّ هذا المُتهم الذى انتدبت للدفاع عنه، إنما يُدافع عن حقيقة كلّنا نعرفها، وهى الوطن الذى طالما ضحينا نحن فى سبيل تحريره، إنَّ هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوًا له، ومن حقه أن يُقاومه بكل ما يملك من قوَّة، حتى يُخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية.. إنَّ العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء، وإنى آمل أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إنَّ عجلته تدور وتسجّل ما يحدث فى هذا العالم المضطرب»، فقاطعه القاضى برفع الجلسة للمداولة، وبعد مضى فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضى والمستشاران والمدعى العام بينما المحامى لم يحضر لتلاوة الحكم القاضى بإعدام عمر المختار شنقًا حتى الموت، وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار اكتفى بالقول: «إنَّ الحكم إلّا لله.. لا لحكمكم المُزيَّف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون».
16 مارس 1931 ذكرى إعدام عمر المختار
فى صباح اليوم التالى للمحاكمة، الأربعاء 16 سبتمبر 1931، اتُخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأُحضر 20 ألف من الأهالى وجميع المُعتقلين السياسيين خصيصًا من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم فى قائدهم.
وأحضر المختار مكبل الأيادى وفى تمام الساعة التاسعة صباحًا سلَم إلى الجلّاد، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق فى الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وسار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، ليتم إعدام أسد الصحراء، الذى لم تنجب ليبيا بطلا مثله، وهى فى معاناتها الدائمة حتى الآن.
دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر. وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم. وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.