قد يعتاد الجسد على ضربات السياط فيعتاد الوجع ويرفض الجلد الانفعال به، فيفقد السياط قيمته وتصبح ضرباته بلا جدوى لكن هل تعتاد الروح على الإهانة، هل تستسلم كما استسلم الجسد، هل يفقد السياط هيبته مع الروح فيسلبها وجع الإهانة مثلما سلب الجسد وجع الضرب؟، الإجابة بالطبع "لا"، خاصة إذا كان مع تحية كاريوكا، تلك الشجاعة القوية المثابرة، التى ترفض نفسها الاستسلام أو الإهانة، وقد يعرف الكثيرون العديد عن الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا، نعرف عن وطنيتها وعن ثقافتها وعن عزة نفسها وعن قلبها الكبير والخير الذى يملؤه، نعرف عن عنادها وشجاعتها المفرطة، فلم تخش مثقفا أو غنيا أو مهرجانا عالميا أو خديوى، كانت تعتز بنفسها ولم تشعر يوما بالدونية، والسؤال هنا كيف تشكلت كل هذه الصفات؟، وقد تشعر أن هذه الفنانة العظيمة قد ولدت وتربت على عزة النفس وعلمها أبواها كيف تكون شخصية شجاعة لا تخشى شيئًا وترفض ما لا يناسبها وتقاتل من أجل ما تريد، لكن الصدمة قد تتملكك عندما تعرف أن كاريوكا ذاقت من الذل والإهانة كثيرا من أقرب الناس إليها وهو أخوها "أحمد" حتى قررت التمرد عليه وعلى الأسرة كلها لتبحث عن حلم ضائع يشكل لها حياة غريبة عنها تمامًا لم تكن تخطط لها، هى فقط أرادت الحياة بكرامة فكانت كما عرفناها "تحية".
فى مذكراتها التى كتبها الأديب الكبير صالح مرسى وجمعها الكاتب الصحفى محمد توفيق فى كتاب يحمل اسم «مذكرات كاريوكا»، يتناول توفيق حياة تحية أو «بدوية» كما كان يطلقون عليها فى البيت، منذ ميلادها ونشأتها، ورقصتها الأولى وهى طفلة، وهروبها من بيت أخيها إلى القاهرة وصولا إلى تربعها على عرش الرقص الشرقى، وقد بدأت قصة تحية برقصة فى أحد الأفراح كانت تغنى فيه الفنانة « سعاد محاسن»، وخطف بصرها أضواء العرس ودق قلب الطفلة مع دقات الطبلة فأخذت ترقص ويتدلى شعرها الطويل على الأرض، حتى أخذها أخوها أحمد عنوة من الفرح ومن أمها فاطمة الزهراء وبدأت رحلة من الإهانة تلازم حياة تحية الفتاة الصغيرة التى أخرجوها من المدرسة ومنعوها من رؤية والدتها وقام أخوها بتقييدها بالأصفاد وبدأت زوجة أخيها فى تعذيبها واستعبادها ووفقا لمذكرات تحية فكانت تستقيظ على ركلة فى البطن من زوجة الأخ، فتفزع الصبية وتقوم من نومتها القلقة المليئة بالكوابيس، تحاول الزحف إلى الحائط لتبتعد عن زوجة الأخ لكن الأصفاد المقيدة قدميها كانت تمنعها، بينما تسمع صوت زوجة الأخ وهى تقول «فزّى قومى علشان العجين، الشمس هاتطلع».
كانت الليلة التى رقصت فيها تحية فى الفرح هى آخر ليلة تضحك فيها، لم تر أمها منذ هذه الليلة منذ أربعة سنوات إلا مرة واحدة فى قسم البوليس، منذ هذه الليلة التى قصوا فيها شعرها تمامًا، سلبوها حريتها وأمها وشعرها، وأذاقوها من الذل أشكالًا وهى منذ هذه الليلة لا تفكر إلا فى الهرب، وفى يوم دخل أخوها أحمد البيت غاضبًا وناداها وهو يشتم ويصرخ ويخبر زوجته أن أمها فى الإسماعيلية، وقامت برفع دعوى جديدة لتأخذ تحية وأن الفتاة عليها الذهاب إلى القسم ليسألها الضابط من جديد، وقتها ووفقًا للمذكرات التى نقلها صالح مرسى كانت تحية ترتجف وهى تعلم أن أخوها سوف يضربها، رغم أن الضرب لم يعد يؤلمها إلا أنها كانت خائفة ولا تفكر إلا فى الهرب، وتفكر أيضًا فى ضرورة حفظ كل كلمة يقولها أخوها لترديدها أمام الضابط فى القسم، فعلامات السواط مازالت على جسدها الصغير منذ الزيارة الماضية للقسم، والجوع مازال ينهش فى بطنها بعد حرمانها من الأكل، لذا ستردد كل ما يقول لها أخوها، ذهبت إلى القسم وقالت أمام الضابط أنها تذهب إلى المدرسة، فبكت الأم وحاولت إقناع الضابط أنها تعمل خادمة فى منزل أخوها منذ سنوات لكن لا كلام يفيد وبقى الحال كما هو عليه، لتستمر فى العذاب من كل أفراد بيت أخيها إلا عثمان أحد أبناء أحمد والذى كان يكبرها بثلاث سنوات، وكان يعطف عليها ويمنحها الحلوى سرا حتى لا يراه أحد ويعاقبه، لدرجة أنه كان يقول لها «ابلعيها بسرعة» فتبلعها الصغيرة دون أن تتذوق طعمها.
الهرب هو الفكرة الوحيدة التى كانت تفكر بها بدوية، ولم تكل من محاولات الفرار يوما، تخطط وتنفذ ثم يعيدها الأخ عنوة، فى المرة الأولى هربت إلى بيت أخيها مرسى بعد أن فكت زوجة الأخ الأصفاد عن قدميها ودفعتها إلى شوال الدقيق لتقوم بالخبز، ووفقًا للمذكرات التى كتبها صالح مرسى وجمعها محمد توفيق فقد هربت بدوية إلى بيت أخيها المريض مرسى واشتكت له كل ما تتذوقه فى بيت أخوها أحمد الذى حضر إلى بيت مرسى وفى يده سواط أسود فأخذها عنوة للبيت من جديد، وظلت تحاول الهرب حتى مات الأخ الأكبر مرسى وماتت معه أحلام كثيرة منها عودتها للمدرسة يومًا ما بعد استعادة صحته وعودة سيطرته على البيت، لكنها فى هذا اليوم قررت أن تجدد محاولات الهرب لكن هذه المرة لن تهرب إلى بيت إخواتها لأبيها لأن نفوذ أحمد عليهم جميعا، لكنها ستهرب إلى بيت أختها لأمها، وصباح يوم «خبيز» أيضًا حملت بدوية وعاء العجين فوق رأسها وصعدت به إلى السطح، غطت الوعاء ليختمر وجهزت الفرن والحطب، وكان عليها الخروج للشارع لشراء الفطور، فخرجت ولم تعد، ذهبت لبيت أختها من أمها ولم تكن تعرف أنها الطامة الكبرى، فإنها فى هذه المرة هربت إلى بيت رجل غريب، ووصلت إلى بيت أختها، وأغلقت الباب وراءها، وانفجرت باكية، وقد ظنت أنها قد أصبحت فى مأمن، وقصت على شقيقتها «نبوية» كل شىء، لكن لم تمض ساعات قليلة حتى عرف أحمد أن بدوية هربت، وأنها ذهبت إلى بيت «الجداوى»، فذهب والشرر يتطاير من عينيه، كان شعرها قد طال قليلًا، فجذبها منه، جرها عبر الدرج إلى الشارع، وجرها من الشارع إلى البيت، وقذف بها فى الغرفة الصغيرة، وسمعت لأول مرة فى حياتها صليل القيود، قيود حديدية كان أحمد يمسكها فى يده، ويهبط بها إلى الأرض، ليضعها فى قدمى أخته، ثم ينهال على جسدها ضربًا حتى يتعب، فيستدعى حلاقًا، يجز لها شعرها من جديد، ثم قرر تركها عامًا كاملًا فى الأصفاد، وعادت بدوية تحلم من جديد، وكلما أغمضت عينيها طالعها وجه سعاد محاسن، وصوتها وهى تغنى وأضواء شارع اسمه عماد الدين، وطبلة يعزف عليها شاب بمهارة.
يقول توفيق فى كتابه «مذكرات كاريوكا» التى نقلها عن صالح مرسى إن عاما كاملا وهى فى الأصفاد لا تعطى لقدميها حرية الحركة إلا إذا كانوا يريدون منها أن تفعل شيئًا، شهر وراء شهر وعثمان يهرب لها الحلوى التى يجلبها أبوه من بورسعيد، ويطلب منها -فزعًا هو الآخر- أن تبتلعها بسرعة، فتبتلع الحلوى دون أن تتذوقها!، وبدأ اليأس يتملكها، مات الأخ الأكبر «مرسى»، وانزوت زوجته بأولاده بعيدًا عن العائلة، وبيت أختها لأمها وهو البيت الذى كانت تعيش فيه الأم «فاطمة النبوية»، قد أغلق فى وجهها إلى الأبد، ولم تعد أمها تأتى لزيارته، ولم يتبق للصغيرة بدوية إلا الحلم الغريب بالشارع الذى يحمل اسم «عماد الدين» والذى أخبرتها عنه سعاد محاسن، التى كانت هى وكراوية «الطبال» أيضًا جزءًا من حلمها، حتى جاءت ليلة كانت تبكى فيها بدوية وحدها بعد أن ضربها أخوها أحمد وظل يضربها حتى ناله التعب فتوقف ونام من التعب ونام من بعده أهل البيت جميعا، وهى جالسة تبكى ولا تتذكر لماذا ضربها أحمد، فلقد كان يضربها دائما دون سبب، وكانت القيود فى قدميها تمنعها من الهرب، وفجأة فتح أحدهم الباب فى هدوء، وكان عثمان «ابن أخيها»، فقال لها بصوت منخفض «مش كفاية عياط يا بدوية؟»، ولكن بكاءها ازداد، وازداد انهمار الدمع من عينيها، فركع عثمان بجوارها وهو يهمس «كفاية عياط علشان أبويا ما يسمعش حاجة»، وكان الصبى يحمل فى يده شيئا، وكانت يداه تقتربان من ساقيها فى الظلام، وساد الصمت وقد حبست الصبية أنفاسها خشية ورهبة، واصطدم المفتاح الصغير بقفل القيد فى قدميها، وفك عثمان قيود بدوية، فسألته الصغيرة ببراءة «عاوزنى أعملك شاى؟»، فقال هامسا، «لا.. أنا عاوزك تهربى»، واختفت بدوية من البيت للأبد، بعد أن بحث أخوها أحمد عنها فى كل بيوت البلدة، لكن النهار مضى دون أن تظهر بدوية.
يقول صالح مرسى فى مقالاته التى جمعها محمد توفيق فى كتاب «مذكرات تحية»، إنه فى قطار متجه إلى القاهرة فاقت بدوية من غفوتها على صوت الكمسارى وهو يسألها «التذاكر يابنتى»، فارتجفت ثم حلت عقدة منديلها، وأخرجت كنزها كله، وقدمته له فى صمت: فسألها «إيه ده.. إنتى رايحة فين يا شاطرة؟»، فأجابته «مصر»، فسألها مجددا، وراكبة من غير تذكرة ليه، وإيه اللى ركبك القطر فى الساعة دى، إنتى تنزلى المحطة الجاية، ونزلت الصغيرة فى المحطة وراحت تسأل كل من حولها فى الشارع «والنبى يا عم عماد الدين فين؟، وكانت تقرأ اللافتات، وهى تتداخل فى نفسها من الخوف، كان الوقت عصرًا والشارع مزدحمًا بالناس، وتوقفت عيناها عند لافتة كتب عليها «كازينو يوسف عز الدين»، وبجوار الباب كان هناك صور ولافتات، ورجل وامرأة يجلسان فوق مقعدين على الرصيف، فسألت الرجل «والنبى يا عم.. ما تعرفش الست سعاد محاسن؟، فكانت الإجابة غير متوقعة، حيث رد عليها قائلا «عاوزاها ليه؟»، فلم تتملكها الفرحة وردت «عاوزاها»، فـأجابتها المرأة، «سعاد محاسن فى إسكندرية يا بنتى»، فركبت بدوية القطار إلى الإسكندرية وبحثت عن حلمها التائه فى شخص سعاد محمد حتى وجدته، ها هى تقف أمامها، تراها بعينيها وسعاد تحملق بها ثم صاحت فجأة «مين .. تحية.. ايه اللى جابك إسكندرية؟»، وهكذا وصلت «تحية» إلى سعاد محاسن الراقصة التى كانت تذهب إلى الإسماعيلية مع فرقتها وكانت تلتقى بتحية الطفلة وتسألها دائمًا: تيجى معايا مصر يا تحية؟»، وقد عرفتها «سعاد» بعد ذلك على بديعة مصابنى والتى على يديها أصبحت «تحية كاريوكا».
ظلت تحية فى أمان حتى رآها رجل من بلدتها فعرفها على الفور وهددها بإخبار أخوها أحمد لكنها لم تستسلم، فذهبت إلى ضابط صديق كان يتردد عليها فى الكازينو وأخبرته القصة فقبض الضابط على الرجل وهدده وبالطبع لم يستطع أن يخبر أحدا بعد ما ذاقه فى السجن، ومنذ ذلك اليوم لم تعد تحية تخشى أحدا من رجال بلدتها ولا من أخوها أيضًا بعد أن علاقاتها وصداقتها قد توطدت بكثيرين ممن يستطيعون حمايتها، أما الذى كان يعنيها ويهمها حقا، فهى فاطمة الزهراء الحبيبة التى غابت سنوات، انطلقت بدوية فى عالم الشهرة، بعد أن عرفت بديعة مصابنى، ثم سليمان نجيب الذى تبناها وعلمها كل شىء، كيف تمشى، وكيف تقرأ، وكيف تأكل، وكيف تتصرف، وعرفها بأكبر رجال الفن ودخل بها إلى طبقة الأدباء والمثقفين، وعرفت واشتهرت ودخلت مجال السينما وعرفت بمواقفها السياسية لتبقى فى الوجدان العظيمة تحية كاريوكا التى عرفناها من قبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة