ليس من العقل أبدًا أن ندفع الآن ثمن ما حدث فى الماضى من تلاعب فى الفقه الإسلامى، ومن دسائس مكذوبة زرعت بين طيات كتب التفاسير والسنّة لتعطيل هذه الأمة، وليس من العقل أيضًا أن نترك الساحة لنسخ جديدة من نفس الشخصيات والعقول التى أفسدت الخطاب الدينى فى فترات الدولة الإسلامية الأولى.
عمرو خالد ومن معه من القصاصين ودعاة «النحنحة» الذين أسسوا لأسطورتهم فى ساحة الدعوة الدينية بقدرتهم على جذب الناس بقصص وإلقاء وحكى مصحوب بالدموع، ليسوا النسخة الأولى، هم أحفاد نسخة قديمة كانت أول من بدأ هذا الطريق الذى أفسد علينا منهج الدين والفقه والشرع بما نثروه من قصص مدسوسة ومكذوبة اهتموا فيها بالحبكة الدرامية أكثر من الاهتمام بتأصيلها والتحقق منها وتدقيق تفاصيلها.
نعانى على مدى السنوات الماضية مما فعله «الوعاظ» أو الدعاة الجدد سواء كانوا سلفيين أو غير ذلك فى الخطاب الدينى بسبب اعتمادهم على الروايات غير الموثقة والحكايات المؤثرة التى تهدف فى المقام الأول إلى إبكاء الناس وكسب تعاطفهم ومداعبة قلوبهم، حتى ولو كانت قصصهم هذه تصنع تدينًا مزيفًا، أو تضرب العقيدة فى صلبها، وتحول المستمع إليه إلى تلميذ فى أول طريق التطرف أو التشدد.
الغريب أن أمثال هؤلاء أو أسلافهم، عرفوا فى بداية الإسلام وتحديدا فى زمن ما بعد سيدنا أبوبكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب، وكانوا يحملون اسم «القصاص»، ويقول الغزالى فى إحياء علوم الدين، إن كثرة القصاص أزعجت بعض علماء المسلمين كما أزعجوا بعض أولى الأمر منهم فطردوهم من المساجد ومنعوا الناس من الجلوس إليهم والاستماع إلى ما يقصون، وأول من فعل ذلك من ولاة الأمر كان سيدنا على ابن أبى طالب.
وتعريف «القصاص» كما أورده الشيخ الذهبى أنهم جماعة وعاظ كانوا يستميلون قلوب العامة ويستهوونهم بما يرونه لهم من غرائب وأعاجيب، والنفس، إن لم يكن لها حصانة من علم صحيح، وبصيرة تميز بها بين الحق والباطل، كثيرًا ما تنطلى عليها تلك الأعاجيب وتسلم فى بساطة ويسر للغرائب حتى ولو كانت أكاذيب.
ويقول «ابن قتيبة» عن تأثير هؤلاء «القصاص» على قلوب العامة: «بأنهم كانوا أهم عوامل دخول الروايات المكذوبة والشوائب على السنّة النبوية والأحاديث، ويقول بأنهم كانوا يميلون وجوه العامة إليهم، ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجبًا أو رقيقًا يحزن القلوب، ويستغزر العيون».
وكأنه يشرح مواصفات شيوخ الفضائيات والبرامج الدينية من شيوخ سلفيين ودعاة جدد أطلوا علينا خلال السنوات الماضية بخطابهم الوعظى المستند إلى حواديت وقصص وتفاسير غير مسندة، هدفها الأول مداعبة مشاعر وعواطف الناس من أجل جلب «الزبون» أو المشاهد فى زمن أصبح الدعاة يبحثون فيه عن مساحات من الشهرة الإعلامية ونسب إعلانات البرامج، مثلما كان حال «القصاص» فى الماضى.
الغريب أن أهل هذه القصص ومروجيها وجدوا فى الماضى من يتصدى لهم مثلما فعل سيدنا على ابن أبى طالب وطاردهم وحاصرهم وطردهم من المساجد، بينما أحفادهم الآن لا يجدون رادعا ولا يغلق عليهم أحد استديوهات الشهرة التى حولوا فيها الإسلام والفقه إلى قصص وحكايات ومكالمات هاتفية وحلقات عن الجنس فى الجنة والثعبان الأقرع من أجل رفع نسب المشاهدة، كما كان حال «القاص» فى زمن ما بعد الخلافة يروى الأعاجيب والأساطير غير الصحيحة بهدف جمع الناس حوله فى المسجد، ولعل ما يرويه الإمام السيوطى فى هذه الواقعة يشرح لك خطورة الأمر كله، حيث يقول نقلًا عن جعفر بن محمد الطيالسى: «إن أحمد بن حنبل صلى ومعه يحيى بن معين فى مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرازق عن معمر عن قتادة عن أنس قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: من قال لا إله إلا الله، خلق الله من كل كلمة طيرا، منقاره من ذهب، وريشه من مرجان.. وأخذ فى قصة من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى بن معين، ويحيى ينظر إلى أحمد بن حنبل، فقال له: أنت حدثته بهذا؟ فقال: والله ما سمعت بهذا إلا الساعة، فلما فرغ من قصصه وأخذ القطيعات، ثم قعد ينظر بقيتها، قال يحيى بن معين: ياهذا من حدثك بهذا الحديث؟ فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال له: أنا يحيى بن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط فى حديث رسول الله، فإن كان لابد والكذب، فعلى غيرنا، فقال له: أنت يحيى بن معين، قال نعم، قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق، ماحققته إلا الساعة، فقال له يحيى: وكيف علمت أنى أحمق؟ قال: كأن ليس فى الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فوضع أحمد كمه على وجهه وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة