دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر. وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم. وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
لم يعشق المصريون، شخصا خارج حدود وطنهم أكثر مما عشقوا الشيخ الراحل زايد آل نهيان، فكانت المخيلة الشعبية دائما، تحتفظ للرجل بكثير من الصور الذهنية المحببة لديهم، وكان الشيخ الراحل عنوانا كبيرا للبر والعمل الخيرى والبناء والتشييد، ولم تخل مدينة فى مصر من شارع باسمه ومستشفى عليها يافطة تحمل صورته، بل أطلق اسمه على أحد المدن الرئيسية على أطراف القاهرة، فكانت مدينة «الشيخ زايد»، والتى تتجه الدولة حاليا للتوسع فيها، بحيث تكون عنوانا جديدا للتنمية العمرانية التى تتبناها الدولة المصرية.
كانت كلمة «زايد وأولاده»، عنوانا يحمل معه المصريون فرحة كبيرة، حيث كان الشيخ زايد آل نهيان، يحب المصريين فأحبوه، حيث استطاع الشيخ زايد بأن يقدم نموذجا ممتازا فى كيفية التآخى والعروبة والبر والإحسان بدون مقابل، ولذلك ظهرت آثار ذلك ليس فى مصر فقط، ولكن فى العديد من دول العالم.
فى سير المؤسسين الأوائل للدول وبناة الحضارة، كان للشيخ زايد مرتبة كبيرة فى ذلك، فهو الأب المؤسس، وهو الذى استطاع أن يضع الإمارات على خريطة العالم، بشكل يفخر به العرب جميعهم، وليس الشعب الإماراتى وحده، ونجح الشيخ زايد بن سلطان، أن يواجه الطبيعة الصحراوية لدولته الناشئة، لتكون دافعا لآلاف الأفكار، التى جعلت من بلده موجودة فى الصفحات الأولى للصحف العالمية، ويعرفها المشاهير والرؤساء، ومعرفتهم فقط لا تعتمد على تاريخ وحضارة، ولكن تعتمد على دولة حديثة اعتبرها الجميع، جوهرة الشرق الأوسط، فالمسافر للإمارات العربية، يستطيع أن يرى كل شىء من حضارة وحداثة وتقدم ورقى، وقدرة على استيعاب الجميع.
الشيخ زايد بن سلطان، الذى ولد فى مدينة أبوظبى عام 1918، كان الابن الأصغر من بين أربعة أشقاء، وسمى باسم جده زايد بن خليفة المعروف بـ«زايد الأول» الذى حكم الإمارة من (1885-1909م)، وكانت نشأته تؤكد أن الطفل الصغير، يحلم أن يكون قائدا عربيا، وهو ما سار عليه منذ نشأته، فكان يثقف نفسه، ووضع له منهجا يسير عليه، فهو شخص غير متأثر بالغرب، بل يسعى ليؤكد أصالته، ويتخذ من أرضية شعبه طريقا يسير عليه، ومن تاريخ العرب، استطاع الشيخ زايد، أن يتعلم صيد الصقور، وركوب الهجن العربية الأصيلة والخيل، وإتقان الرماية، وتشكَّلت شخصيته فى فجر شبابه عندما كان فى مدينة العين، واستمد الكثير من صفائها ورحابتها، واكتسب صفات الزعامة والقيادة السياسية التى اتسمت بها شخصيته الفذة.
واستطاع الشيخ زايد الوقوف بجانب مصر وسوريا أثناء حرب 1973 وكانت تلك الحرب بسبب مساندة الأراضى الفلسطينية لتحريرها من الاستعمار، كما أنه قام بمنع وصول البترول إلى الاستعمار، لأنه من أفضل الإمكانيات التى تستعملها فى الحرب، وقد ذكر الشيخ زايد فى محاضرة له أن «النفط العربى ليس أعز من الدماء العربية» كما أنه قد ساند لبنان عن طريق عقد اجتماع عربى كبير فى عام 1980، لمنع حدوث الحرب بين الشعب اللبنانى، كما أنه استطاع عقد اجتماع لدولتى الكويت والعراق، وذلك عندما أرادت العراق استعمار الكويت، واستطاع مصالحتهم كما أنه قد قام بتجميع الأسر الكويتية مع قدومها إلى الإمارات العربية المتحدة.
الشيخ زايد.. طريق نحو زعامة عربية غير مسبوقة
كل الكتابات التى سجلت تاريخ الشيخ زايد، تتفق فى مجموعها أن للرجل سمات خاصة، لم يمنحها له كاتب، ولم يضف عليها روائى، فالأفعال تؤكد ما سرده الجميع عنه، فقد تلقى الشيخ زايد مبادئ العلوم والمعارف على يد عالم دين والذى كان يسمى آنذاك «المطوع»، فحفظ القرآن الكريم وتعلم أصول الدين، وقد كان لنشأته فى مدينة العين ومحيطها الصحراوى القاسى أثراً واضحاً فى تكوين شخصيته؛ إذ كان يتسم بسعة الصدر ونفاذ البصيرة وطول البال والحكمة، ولذلك لقب بـ«حكيم العرب».
زايد بن سلطان آل نهيان.. شخصية عربية استطاعت أن تبهر العالم
سار الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فى طريق كانت تؤكد كل الشواهد، أن له حظا من اسمه، فهو زائد عن الآخرين فى الصفات والذكاء والرقى والعلم والثقافة، فتولى منصب ممثل الحاكم فى المنطقة الشرقية عام 1946، حيث انخرط بشكل مباشر بالشؤون الحكومية وبدأ يمارس تجربته فى الحكم من مدينة العين، وخلال عامين تحول إلى شخصية نافذة وقوية فى المنطقة تتميز بالحزم والإرادة والتصميم، كما برز كمستمع ومصلح ووسيط فى حل النزاعات، وهى الصفة التى لازمته طوال فترة حكمه، ليصبح لاحقاً خير من يساهم فى حل الخلافات إقليمياً وعربياً ودولياً.
نجاح الشيخ زايد بن سلطان فى مدينة العين، جعلته مؤهلا لتولى حكم إمارة أبوظبى فى أغسطس عام 1966، ليضعها على طريق النمو المستدام والتنمية حيث يضرب بها وبدولة الإمارات المثل اليوم فى المنطقة كلّها.
الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، استطاع أن يستغل عائدات النفط التى كانت تتزايد سنوياً لدفع عجلة التنمية والتطوير، ليعود ذلك بالفائدة على جميع الناس الذين يعيشون فى ظل حكمه، بالإضافة إلى وضعه الهيكلية الحكومية الجديدة التى أرست دعائم الحكم فى الإمارة والدولة حتى يومنا هذا.
سلطان بن زايد آل نهيان عنوان كبير للاستقلال الوطنى
فى تاريخ الشعوب دائما شخصيات يضعها الجميع فى مرتبة لا يوجد غيرهم فيها، فهم مؤثرون بقوة فى البناء والتعمير، وهم أيضا لهم دور كبير فى الاستقلال الوطنى، وحماية مقدرات الشعوب، ومن هؤلاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فحينما أعلنت بريطانيا عام 1968 نيتها سحب قواعدها من شرق السويس، أصبح لزاماً على الإمارات أن تخطو خطوة تغير بها وجه التاريخ بالمنطقة، ولاسيما أن منطقة الخليج العربى تُعَدّ لقمة سائغة للطامعين، فقام الشيخ زايد مع أخيه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبى آنذاك ببادرة كان لها عظيم الأثر فيما جاء بعدها من أحداث؛ فكانت اتفاقية السميح التى وقّعا عليها فى الـ18 من فبراير عام 1968، التى فتحت الباب لخطوات كبيرة تلتها؛ فَجَرتْ مباحثات الاتحاد التساعى بين الإمارات السبع، ليعلن قيام اتحاد الإمارات باسم «دولة الإمارات العربية المتحدة».
استطاع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إقامة اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة فى الثانى من ديسمبر عام 1971، وانتخب بإجماع حكام الإمارات أول رئيس للدولة لمدة خمس سنوات، وجَدَّد له المجلس الأعلى ثقته فيه بانتخابه عدة مرات، وانتخب الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم نائباً له.
أخذ الشيخ زايد يتابع شؤون دولته الوليدة الآخذة فى النمو، ووزّع عوائد الثروة النفطية على جميع القطاعات بالدولة، ولاسيما التى كانت بحاجة إلى التطوير، واهتم بالاقتصاد والتعليم، والتراث والثقافة، وحافظ على سمعة دولته بين أخواتها العربيات وبين دول العالم بفضل نظرته المستقبلية وأفقه الواسع، بل زادت سمعة الدولة بفضل الأمن والاستقرار اللذين حظيت بهما.
واتفق حكام الإمارات أعضاء المجلس الأعلى على وضع دستور اتحادى مؤقت من أجل حكم فعّال ونظام تُحدّد فيه سلطات المؤسسات الاتحادية فى دولة تأخذ بأساليب الإدارة الحديثة، وتسعى فى الوقت نفسه إلى المحافظة على الشكل التقليدى الذى يتصف بصفة الديمقراطية المباشرة.
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.. يعتمد على التلاحم الوطنى لبناء دولته
أدرك الشيخ زايد، أنه من أجل تعزيز الانسجام الداخلى والتماسك والتلاحم الوطنى بين أبناء شعبه فإنه يحتاج فى البداية إلى نسج خيوط الثقة وبنائها من خلال التفاعل الشخصى مع كافة المواطنين، وقد عرف عنه قربه لشعبه وتمتعه باللقاءات والاجتماعات مع المجتمع المحلي، وكلف حكومته ببناء وتعزيز قدرات الدولة فى مجال الصحة والتعليم والعدالة والرعاية الاجتماعية، وتوفير الفرص لجميع مواطنى الدولة من أجل أن يكون لهم دور فعّال فى نجاح الأمة، حيث لا تزال هذه الفلسفة واضحة فى الدولة حتى اليوم.
ومن الناحية الاقتصادية، نجح الشيخ زايد فى توظيف عائدات النفط فى بناء اقتصاد قوى ومتماسك مما وضع دولة الإمارات العربية المتحدة فى مصاف الدول المتطورة اقتصادياً فى المنطقة، وبفضل رؤيته الثاقبة، تحتل دولة الإمارات اليوم، المركز الثانى بين دول مجلس التعاون الخليجي، بعد السعودية، من حيث حجم الاقتصاد، والمركز الثالث فى منطقة الشرق الأوسط ككل، كما أصبحت تمثل بحسب كثير من التقارير الدولية المرموقة، أهم مركز مالى واقتصادى فى المنطقة. وقد ظهر أثر ذلك فى مستوى معيشة المواطنين.
وعلى المستوى الخارجى وضع الشيخ زايد، أسس سياسة خارجية متميزة تتسم بالحكمة والاعتدال، والتوازن، ومناصرة الحق والعدالة، وتغليب لغة الحوار والتفاهم فى معالجة كل القضايا، ىوقد أكسبت هذه السياسة المتوازنة المستمرة، إلى يومنا هذا، دولة الإمارات العربية المتحدة احتراماً واسعاً على المستويين الإقليمى والدولى، كما حظى الشيخ زايد، رحمه الله، بمكانة رفيعة المستوى عند جميع القادة العرب، وهذا ما مكنه من القيام بدور الوسيط بينهم فى أكثر من مناسبة، كما كانت مواقفه المشرفة والأصيلة حاضرة فى كل مناسبة.
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.. أول من طرح فكرة تأسيس مجلس للتعاون الخليجى
من أهم الإنجازات تأسيسه لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهو أول من طرح رأيه لعمل مجلس التعاون والذى يجمع بلاد الخليج العربى، وتم تنفيذ الفكرة بداية من اليوم الخامس والعشرين فى العام 1981، متخذا مقر المجلس داخل أبوظبى الموجودة بدولة الإمارات العربية المتحدة وكان الشيخ زايد هو الرئيس الأول للمجلس وأيضًا هو الرئيس الأول الذى استطاع الاشتراك فى عقد المجلس.
أما على صعيد العمل الإنسانى، فقد أكسب الدولة سمعة دولية فى العمل الإنسانى والخيرى من خلال دعمه عددا من القضايا الإنسانية فى جميع أنحاء العالم، وهو النهج الذى ما زال قادة الدولة يسيرون عليه حتى يومنا هذا.
البنية التحتية من أهم أولويات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
كان من أهم أولويات الشيخ زايد تطوير البنية التحتية للدولة؛ فأدرك منذ بدايات حكمه أهمية إنشاء الطرق الحديثة، ومدّ خطوط الهاتف، وتأسيس إعلام وطنى لربط جميع الإمارات السبع، وبالفعل أثبتت الأيام بعد نظرته وسعة أفقه، فكانت الطرق الجديدة، والمطارات الدولية، والموانئ البحرية، وشبكات الخطوط الهاتفية المتطورة التى أبرزت دولة الإمارات ودورها المهم فى العالم الصناعى الحديث، واحتلالها مكانة مرموقة بين أكثر دول العالم الصناعية تقدماً.
وساهم الشيخ زايد فى تغيير العادات والتقاليد التى يتبناها الكثير من الأشخاص وهى عدم ذهاب المرأة للدراسة وقد أعطى مثلا بزوجته وبناته، وهو يريد من ذهابهم للمدارس، وذلك حتى يستطيع السيطرة على الأهالى.
الشيخ زايد هو المسئول الأول عن نشر التعليم المجانى بين شعب الإمارات المتحدة، كما أنه قد استطاع إجبار جميع الأهالى على التعليم، وذلك خلال ثلاثين عامًا، مما أدى إلى انتشار التعليم على مستوى الدولة بأكملها.
اشتهرت دولة الإمارات العربية المتحدة بكثرة المشاريع المتطورة بها والتى قد ساهم بها بشكل كبير الشيخ زايد، فنحن نرى الكثير من المسطحات الخضراء الموجودة بالدولة وأيضًا كثرة المبانى السكنية.
جوائز عالمية حصل عليها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
حصل الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان على العديد من الجوائز العالمية، منها أبطال الأرض، من قبل برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2005، والوثيقة الذهبية عام 1985 من قبل المنظمة الدولية للأجانب فى جنيف، ورجل العام: 1988من قبل هيئة (رجل العالم) فى باريس، ووشاح جامعة الدول العربية عام 1993، والوسام الذهبى للتاريخ العربى عام 1995من قبل جمعية المؤرخين المغاربة، والشخصية الإنمائية عام 1995 من استطلاع لمركز الشرق الأوسط للبحوث والدراسات الإعلامية-جدة، وشهادة الباندا الذهبية عام 1997 من قبل الصندوق العالمى لصون الطبيعة، ووسام المحافظة على البيئة الباكستانى عام 1997 من قبل الرئيس الراحل فاروق ليغارى.
19 رمضان.. وفاة الشيخ العظيم زايد بن سلطان آل نهيان
وفى 19 رمضان 1425هـ، الموافق 2/11/ 2004 م تاريخ لا يُنسى، فقدت دولة الإمارات العربية المتحدة فيه قائدها وبانى اتحادها بعد مسيرة عطاء طويلة استمرت قرابة أربعة عقود، وحزن عليه الصغير والكبير، وكان الخبر صادماً لكل أبناء الإمارات، وأصدر رؤساء الحكومات الدولية رسائل رثاء مليئة بعبارات الأسى لشخص يكنّ له كل العالم التقدير والاحترام، واعتبر الكثيرون رحيله خسارة كبيرة نظراً لإنجازاته التى لا يمكن حصرها.
كان عزاء أهل الإمارات فى أبناء زايد الذين تعلّموا وترعرعوا بالقرب من والدهم الذى يعتبر أعظم مدرسة فى القيادة والحكم العادل؛ فكان الشيخ خليفة بن زايد خيرَ خَلَفٍ لخير سلف، تولّى الحكم بعد والده بموافقة ومباركة من جميع شيوخ الإمارات، لتنتقل من بعده رئاسة الدولة وحكم إمارة أبوظبى إلى صاحب الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الابن الأكبر للشيخ زايد وولى عهد أبوظبى آنذاك، فى حين تولى الفريق أول الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أحد أبناء الشيخ زايد، ولاية العهد، لتواصل إمارة أبوظبى تحت قيادتهم وتوجيهاتهم.