يبدو أن الأزمة السياسية التى تشهدها النمسا فى الوقت الراهن إثر فضيحة نائب المستشار النمساوى هاينز كريستيان شتراخة، بعد تسريب تسجيل مصور له مع سيدة روسية، كان يتفاوض معها حول حصولها على تعاقدات حكومية مقابل الحصول على دعم مالى، سوف تتجاوز فى تداعياتها، الداخل النمساوى، لتمتد إلى المستوى القارى، وربما الدولى ككل، فى ظل تداخل أطراف دولية أخرى، وفى القلب منها روسيا ودول الاتحاد الأوروبى، بالإضافة إلى الولايات المتحدة.
ولعل أزمة جنيف أعادت إلى الأذهان العلاقة المريبة، التى طالما تناولها الإعلام فى الأشهر، وربما السنوات الماضية، بين الساسة من ذوى النزعة الشعبوية، ومن خلفهم أحزابهم اليمينية، ليس فقط فى أوروبا، ولكن أيضا فى الولايات المتحدة من جانب، والحكومة الروسية من جانب أخر، وهو الأمر الذى يسعى الساسة الليبراليين للتركيز عليه فى المرحلة المقبلة، خاصة مع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبى، والتى يتصدر فيها اليمينيون استطلاعات الرأى بصورة كبيرة، تزامنا مع بزوغ نجمهم على الساحة السياسية فى الكثير من دول القارة.
العلاقة مع روسيا.. موسكو تثير الجدل منذ صعود ترامب
العلاقة مع روسيا أثارت العديد من الجدل، منذ صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، فى يناير 2017، فى ظل الحديث المتواتر عن دور روسى مشبوه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، والتى تمكن فيها ترامب من تحقيق فوز غير متوقع على منافسته الديمقراطية هيلارى كلينتون فى عام 2016، حيث كانت قضية التدخل الروسى المزعوم هى المهيمنة على الساحة السياسية الأمريكية فى السنوات الماضية، إلى الحد الذى تعالت فيه الأصوات بعزل الرئيس من منصبه، خاصة بعدما تمكن الديمقراطيين من الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب فى انتخابات التجديد النصفى الأخيرة، والتى أجريت فى نوفمبر الماضى.
علاقة ترامب بموسكو أثارت جدلا كبيرا
إلا أن النتائج التى آلت إليها التحقيقات التى أجراها القاضى الأمريكى روبرت مولر، كانت بمثابة المنقذ للرئيس الأمريكى من الاتهامات التى لاحقته لأكثر من عامين، مما دفعه إلى السخرية منها مؤخرا بالحديث عن أحقيته فى تمديد فترته الرئاسية، لتعويض العامين الأولين، اللتين قضاهما ترامب بالانشغال بتلك القضية، وهو التصريح الذى أثار جدلا كبيرا، لم ينته إلا بتصريح البيت الأبيض، والذى أوضح أن حديث الرئيس لم يخرج عن إطار المزاح، ولم يعكس أى نية للرئيس لتمديد فترته.
ولكن المفارقة الجديرة بالملاحظة أن نتائج تقرير مولر لم تقتصر فى تداعياتها الإيجابية على ترامب وحزبه الجمهورى فى الولايات المتحدة، وإنما امتدت إلى أحزاب اليمين الأخرى، حيث أنها ساهمت إلى حد كبير فى محو الشبهات التى طالما حاول الليبراليون الترويج لها فى الأشهر الماضية عن تلك العلاقة التى تجمعهم بروسيا، وهو الأمر الذى ساهم فى زيادة شعبية تلك الأحزاب بصورة ملحوظة، وهو الأمر الذى يعد بمثابة فرصة ذهبية بالنسبة لهم، فى ظل التزامن بين إعلان نتيجة التحقيقات من جانب، واقتراب انتخابات البرلمان الأوروبى من جانب أخر.
العامل المشترك.. مصالح روسيا تتطابق مع رؤية اليمين
وهنا يمكننا القول بأن هناك حالة من الارتباط بين أحزاب اليمين فى مختلف الدول الغربية، حيث أنها تتأثر ببعضها بصورة كبيرة، سواء فيما يتعلق بما تحققه من انتصارات، أو ما يلحق بها من نكبات، وهو الأمر الذى يثير مخاوف كبيرة لدى الساسة المنتمين لهذه التيارات فى مختلف دول أوروبا، وربما الولايات المتحدة، من جراء التداعيات المترتبة على فضيحة النمسا، خاصة وأن العلاقة المشبوهة مع روسيا تبقى العامل المشترك والرئيسى فى كافة القضايا المثارة خلال الفترة الماضية.
مخاوف كبيرة من تداعيات فضيحة النمسا على انتخابات البرلمان الأوروبى
ويعد السبب الرئيسى فى التقارب بين التيارات اليمينية وروسيا هو حالة العداء الذى تحمله تلك الأحزاب تجاه المؤسسات، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبى، وكذلك حلف شمال الأطلسى "ناتو"، وهو الأمر الذى يتطابق مع الرؤية الروسية، والتى ترى أن مثل هذه المؤسسات كانت الأداة التى استخدمها المعسكر الغربى لسنوات لحصارها، عبر توسعها لتمتد إلى مناطق تمثل عمقا استراتيجيا لموسكو، وهو الأمر الذى أعربت روسيا عن رفضها له مرارا وتكرارا، وبالتالى كان صعود ترامب الشعبوى إلى البيت الأبيض، والتيارات اليمينية فى أوروبا الغربية فرصة كبيرة لموسكو لدحض التهديدات التاريخية التى تواجهها.
الناتو والاتحاد الأوروبى.. اليمين يدحض مخاوف روسيا التاريخية
فلو نظرنا إلى المواقف التى تبناها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، منذ حملته الانتخابية، نجد أنها حملت عداءا غير مسبوق لحلف شمال الأطلسى، والذى يحمل قيمة رمزية كبيرة للمعسكر الغربى، باعتباره التحالف التاريخى للمناهض للاتحاد السوفيتى، بل وأنه هدد بالانسحاب منه مرارا وتكرارا، إذا لم تلتزم الدول الأعضاء بالوفاء بالتزاماتها المالية، كما أنه حمل الموقف نفسه تجاه الاتحاد الأوروبى، حيث يعد أكبر الداعمين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، باعتبار أن مثل هذه الخطوة هى نقطة الانطلاق لتفكيك الكيان الأوروبى المشترك.
الناتو يشكل قلقا تاريخيا لموسكو
وعلى الجانب الأخر، نجد ان الحكومات الأوروبية ذات الحكومات اليمينية تتبنى مواقف داعمة لموسكو، وعلى رأسها الحكومة الإيطالية، والتى سبق وأن دعت صراحة خلال قمة مجموعة الـ7 الاقتصادية الكبرى، إلى عودة روسيا إلى عضوية المجموعة فى القمة الأخيرة والتى عقدت فى كندا فى شهر يونيو الماضى، وهو الأمر الذى أعرب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن تأييده كما أن الحكومة الإيطالية تعارض كذلك العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو.
وهنا تصبح المشتركات المتعددة بين أحزاب اليمين المتطرف وروسيا، قد خلقت حالة من الاشتباه فى سياساتهم إلى الحد الذى ساعد الأحزاب الليبرالية المناوئة لهم، على اتهامهم بالخيانة، وهو ما يبدو واضحا فى تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فى أعقاب فضيحة نائب مستشار النمسا السابق، والذى دعت فيه إلى "التصدى لمن يبيعون أنفسهم".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة