أكرم القصاص - علا الشافعي

الحب والثورة والموت فى «حوارات أمل دنقل».. شاعر الرفض الجميل تمنى أن يكون روائيا وقصة حب حولته.. رفض قصيدة النثر وانضمام الشعراء للأحزاب.. ويعد ديوانه الأول تاريخا لـ67.. رأى ظهور عدوية انحطاط للأغنية المصرية

الجمعة، 24 مايو 2019 04:00 م
الحب والثورة والموت فى «حوارات أمل دنقل».. شاعر الرفض الجميل تمنى أن يكون روائيا وقصة حب حولته.. رفض قصيدة النثر وانضمام الشعراء للأحزاب.. ويعد ديوانه الأول تاريخا لـ67.. رأى ظهور عدوية انحطاط للأغنية المصرية أمل دنقل
كتب - محمد عبد الرحمن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

-  لم يكن أمل دنقل مع قصيدة النثر ولا يحبها، لكنه كان يؤمن أيضا أن أى لون من ألوان الإبداع الفنى والأدبى لا يكتسب شرعيته من خلال تحريم النقاد أو تحليلهم له

 
«إن الشعر فى جوهره هو إعادة اكتشاف للعالم المحيط بك، ثم إعادة بنائه كما يجب أن يكون، والشاعر لا يستطيع أن يرى العالم بغير عينه، وبالتالى لا يستطيع أن يكتشف العالم اكتشافا حقيقيا إلا إذا ارتبط هو نفسه بالواقع الذى يراه، وكل ما عدا ذلك إما مستعار أو زائف» هكذا قال شاعر الرفض الجميل، أمل دنقل فى إحدى حواراته، مبينا نظرته للشعر وكيف يرى العالم من موقعه كشاعر.
 
كان أمل دنقل «1940- 21 مايو 1983» شاعرا يملك عيونا تبصر أكثر مما يبدو، يرى حالنا واضحا أمام ناظريه منذ قديم، يتنبأ بما سيصيبنا من هزائم وانكسارات، وهكذا يكون الشاعر الحقيقى المهموم الذى لم يكن أبدًا بوق سلطة ولا مبرراتيا للحكومات ولا متربصًا بأحد، لكنه مهموم بما يراه أمامه يقرأ واقع مجتمعه ومستقبله.
 
شاعر الرفض لم يكن معارضًا لأجل المعارضة ولا ثائرا نزقا لا يعرف مفرداته ولا أدواته، فقط كان صاحب فلسفة ورؤية جعلته مميزًا لا يصالح ولا يتهاون فى الفن والجمال، ويقول «لا» حتى لو قال العالم كله «نعم»، ليعيش بيننا حتى رغم مرور 37 عاما فعاش شاعر الرفض الأبدى، ولعلنا فى تأملنا فى كتاب «حوارات أمل دنقل» إعداد أنس دنقل، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فى 210 صفحات من القطع الكبير «حجم الكتاب» نستطيع أن نعرف كثيرا من فلسفته الخاصة من خلال أغلب الحوارات التى أجريت مع الشاعر «الجنوبى».
 
رغم أن الأب كان متزمتا دينيا، فإن «أمل» وجد فى مكتبة والده ضالته، وكانت له الطريق الذى نهم منها ثقافته وشغفه بالشعر، فى مكتبة والده وجد كتبا كثيرة تتعلق بالشعر والقصة والأدب، وكان والده يقرض الشعر فى كثير من الأحيان، فى البداية تمنى شاعر الرفض الجميل، أن يكون قاصا أو روائيا، وبطبيعة نشأته المنزلية كان متفوقا فى اللغة العربية.
 
فى السادسة عشرة من عمره، دق قلب «أمل» وواجه الحب قلبه بأولى تجاربه العاطفية، مثلما يمر الشباب فى تلك السن، ولم يتمكن أن يعبر بشكل روائى أو قصصى، لم تكن هناك قصة مكتملة، وإنما مشاعر تنتابه عندما يرى فتاته الأولى، ولذلك كان الشعر أقرب الوسائل للتعبير عن هذه الانطباعات.
 
أول مرة عرض أمل دنقل أشعاره كانت على أستاذه فى المدرسة، وكان شاعرا، لكنه أجابه فيما معناه أن الخير له أن يترك الشعر لأنه لن يكون شاعرا أبدا، وهنا شعر أمل بالتحدى وبالإهانة، ولم ييأس وأخذ يستعير دواوين كبار الشعراء كالمتنبى والبحترى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم، بعدما أخبروه أن الشاعر لا يصبح شاعرا إلا لو حفظ ألف بيت شعر، وفى العام التالى تقدم بقصيدة جديدة للأستاذ نفسه، والذى أبدى دهشته من مستوى أمل، وأحس حينها أنه حقق انتصارا.
 
يرى أمل دنقل أنه حرص من خلال ديوانه الأول «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» الصادر عام 1969، أن يؤرخ للقصائد التى يحتويها، فالنكسة لم تفعل أكثر من أنها أثبتت أن إحساسه بانهيار المجتمع كان صادقا ولم تفعل أكثر من الذين كانوا يعصبون عيونهم عن رؤية الكارثة المقبلة بصفحات التمجيد فى الجرائد وجعجعة «صوت العرب» وطنطة «الاتحاد الاشتراكى»، وهولاء الذين تصوروا أن مصر أصبحت ألمانيا الجديدة تحمل للشرق رسالة العروبة المتفوقة على بقية الأجناس والاشتراكية العربية التى تلغى كل الفلسفات، هولاء اكتشفوا فجأة أن ما كان يكتبه أمل دنقل منذ عام 1962 هو الرؤية وليست أشعار السد العالى.
 
 لم يكن أمل دنقل مع قصيدة النثر ولا يحبها، لكنه كان يؤمن أيضا أن أى لون من ألوان الابداع الفنى والأدبى لا يكتسب شرعيته من خلال تحريم النقاد أو تحليلهم له، وقصيدة النثر التى يكتبها البعض ويرفضها الكثيرون فإن من يحدد بقاءها هو مدى استجابة الناس لها ومدى تبنيها هى نفسها لقضايا الناس.
 
والقصيدة تغيرت عما كان وضعها فى عهد محمود سامى البارودى وأحمد شوقى، حيث أضيفت أشياء كثيرة إلى نسيج القصيدة من حيث اللغة أو الرؤيا.
 
أما حول وضع الشعر، فكان أمل لا يميل لفكرة تقسيم الشعر العربى إقليميا، فالشعر العربى هو الذى نشأ فى ظل تبنى قضايا الأمة العربية والذى ارتبط بالثورة العربية وقضايا الجماهير والتحرر، ومن ثم نشأت بين العرب أرضية مشتركة وأفكار مشتركة، وهناك فروق ضئيلة بين الشعر العراقى أو اللبنانى أو الفلسطينى، حيث تظهر حساسية اللغة، بينما اللغة فى مصر أقرب لغة الصحافة والاستعمال اليومى، ومن هنا نجد رهافة الكلمة ومدى عصريتها فى الشعر المصرى.
 
كان أمل دنقل مع التزام الشاعر، لكنه أيضا ضد إلزامه، وكان ضد أن يكون الشاعر منتميا إلى حزب سياسى أو جماعة سياسية، لأن الشاعر ليس بوقا لأحد، كما أن هناك تناقضا، فإذا كانت السياسة فن الممكن فالشعر هو فن المستحيل، السياسى أبدا يطالب بما يمكن تحقيقه، أما الشاعر فهو يطالب بما يبدو وكأنه مستحيل التحقيق، من هنا أغلب الشعراء الذين ينتمون إلى حزب أو تنظيم هم دائما أضعف الشعراء، فالشاعر يجب أن يملك حرية مطلقة كاملة، والتزام الشاعر ينبع من ضميره وفكره.
 
كتب أمل دنقل «ورأى الرب ذلك غير حسن» لكن ما الذى كان يراه هو غير حسن؟ كل شىء كل شىء كان يراه أمل غير حسن، وذلك لأن الشعر أساسا يرفض الواقع مهما كان جميلا، فالخيط الذى ينظم الأشياء أصبح مفقودا، قد يكون لدينا درر الخيط، لكن الخيط الذى ينظمها مقطوع، غير موجود، يرى أمل أيضا أن عندنا مواهب وثقافات وعقليات وجامعات، وكل أوجه التقدم، ولكن الذى ينظم كل هذا ويجعل منه شيئا خلاقا ومبدعا ومؤثرا وفعالا مفقودا حتى الآن.
 
كان أمل دنقل يرى أن كل ظاهرة ثقافية هى تعبير عن الفترة التى نعيش فيها، فهو يرى مثلا أن ظهور عدوية قد يكون انحطاطا للأغنية المصرية، لكنه خير معبر عن الفترة التى ظهر فيها، ويقول: «إن هذا الصوت الذى ليس صوت رجل أو صوت أنثى، هو تعبير حقيقى عن العصر الذى نعيش فيه، فنحن لم نستطع أن نكون فيه رجالا ولا أن نكون نساء، لم نسطع أن نكون إيجابيين ولا أن نكون سلبيين، إنما نحن نعيش كما يرسم لنا».
 

تنبأ بموته فى قصيدة «ضد من؟» وكان لا يخاف الرحيل على الإطلاق

عندما سئل أمل دنقل عما تتنبأ به قصيدته «ضد من؟» قال: «ليس فى القصيدة تنبؤ، وإن كان هناك تنبؤ بموتى وهذا ليس تنبؤا لأن كل حى مصيره الزوال، كما يقول الشطر العربى المشهور، ولا أعتقد أن قصيدة «ضد من؟» تعتمد على التنبؤ لأنها قصيدة ذاتية تعبر عن إحساس ذاتى وليست عن إحساس بالنسبة للمجتمع أو الأمة مثل قصيدة «لا تصالح».
 
ويرى أمل أن المرض أضاف إليه، فقبله لم يكن يحسب حسابا لأى شىء سواء كان يظهر أو يتحرك أو يتشاجر، ودائما ما كانت هناك خصومة بينه وبين الأشياء، لكن المرض أعطى له نوعا من التصالح والهدنة مع العالم والحياة، ومن هنا أصبحت درجة الخصومة ليست أقل، لكنها أكثر نعومة وأكثر خفاء.
 
فى النهاية، قال أمل وقبل يغادر دنيانا: «أنا لا أخاف من الموت على الإطلاق، ولكن ما هو نوع الموت؟ ليس الموت هو مفارقة الروح الجسد، هناك الموت غدرا مثل الجندى الذى أرسل به إلى الميدان دون أن تتخذ الاحتياطات لكى ينتصر، هناك الموت سأما ومللا مثل الحياة التى يعيشها الكثيرون فى المدن الصفيحية والميكانيكية الفارغة، هناك الموت تحسرا وعجزا مثل الموت الذى نمارسه يوميا.. لكن الموت بمعنى مفارقة الروح للجسد هذا لا يخفينى، بل أفكر فيه وجزء كبير من مقاومتى للمرض الموت، إذا كان قادما فليأت، ولكن على الإنسان أن يفعل ما يأمر به العلم فى مثل هذه الحالة والباقى على الله».
 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة