يظن بعض الناس أن العدل والمساواة بمعنى واحد، أو على الأقل متلازمان، فالعدل عندهم يقتضي المساواة، والمساواة تستلزم تحقيق العدل، ولذا يفهمون أن العدل بين النساء المشروط ليتزوج الرجل بزوجة أخرى أو أكثر هو التسوية بينهما في الإنفاق والمبيت، بمعنى أنه إذا أنفق على زوجة ألف جنيه مثلًا، يجب أن ينفق على الأخرى ألفًا كذلك، وأنه إن بات عند واحدة فانصرف إلى عمله السابعة، فإنه يلزمه أن يفعل ذلك في نفس التوقيت مع الأخرى، وأن ما يكون بينه وبين زوجة في يومها أو ليلتها، يجب أن يتكرر عند الأخرى!
ولا يدرك هؤلاء أن التسوية بهذا المعنى قد تكون هي عين الظلم؛ فقد تجتمع التسوية مع العدل كتسوية القاضي بين الخصوم في النظر إليهم، والجلوس أمامه أو الوقوف، والتلطف أو الحزم معهم، ومنح المتهم فرصة للحديث والدفاع عن النفس، وأخرى مساوية للمدعي، وكذا التسوية بين العاملين في المصانع والشركات وغيرها في الراحات والإجازات ما لم توجد اعتبارات أخرى كالمرض مثلًا بما يقتضي زيادة للمريض عن الصحيح أو المجد عن المتكاسل أو المهمل، فالتسوية فيما سبق ونحوه عدالة، أما التسوية في الإنفاق على الزوجات تسوية عددية فليست هي المرادة والضامنة للعدل، بل قد تكون عين الظلم ونقيض العدل المشروط؛ فالعدالة المطلوبة بالنسبة للزوجات هي أن يكون تحقيق الحاجة بدرجة مكافئة لما حقق نفس الحاجة للزوجة الأخرى، وقد لا يتساوى ما يحقق حاجة إحداهن مع ما يحقق حاجة الأخرى، فمثلًا لو أن إحدى الزوجات مرضت فأنفق الزوج على علاجها ألف جنيه، فلا يلزمه إنفاق مثله على الأخرى؛ حيث إنها لا حاجة لها في علاج أصلًا لعدم مرضها، وإذا كانت إحدى الزوجات تسكن في شقة مستأجرة بالمدينة، في حين تسكن أخرى في منزل يملكه الزوج بالقرية، فلا يلزمه أن يدفع مقابل ما يدفعه أجرة للأخرى، وإذا كانت إحداهن تربت على مستوى معيشة معين يقتضي نفقة معينة تعد مرتفعة بالنسبة لما اعتادته الأخرى، فلا يلزمه الزيادة في نفقة الأخرى على ما يكفي لتحقيق حاجاتها.
ومن ثم، فإن حاجات زوجة تخرج للعمل غير حاجات أخرى لا تعمل، وزوجة مريضة غير زوجة صحيحة، وزوجة في قرية غير زوجة في مدينة، والتسوية بينهن تسوية عددية هي عين الظلم؛ لأن الزوج عندئذ سيقضي لواحدة منهن حاجتها، في حين لا يقضي للأخرى إلا جزءًا يسيرًا من حاجتها، فالعدالة هنا معناها عدم تفضيل إحداهن على الأخرى في إشباع حاجتها، فإن وسع الله على الزوج في الرزق حقق لكل واحدة منهن حاجتها بالقدر الذي يكون مناسبًا لحاجة الأخرى ومشبعًا لحاجتها كالأخرى، وإن كان هناك تفاوت في المال اللازم لتحقيق الحاجة، أما إن كان رزقه محدودًا فإنه يحقق لكل واحدة منهن بقدر ما يحقق للأخرى، ولا يشبع حاجة واحدة بشكل كامل على حساب الأخرى، بل يجب أن يكون نقص الإشباع المالي مكافئًا لا مساويًا للنقص في الطرف الآخر، فيحقق لكل واحدة ثلث أو نصف حاجتها كالأخرى، وقد يكلفه هذا الثلث أو النصف لواحدة ضعف ما يكلفه لتحقيق نفس القدر بالنسبة للأخرى، فقد يكون إنفاق ألف جنيه على واحدة يعادله عدة آلاف على أخرى، مع أن المساواة العددية في هذه الحال مفقودة.
وإذا كانت مساواة القاضي بين الخصوم في أثناء نظر القضية عدلًا، فإن مساواته في الحكم بين المدعي والمدعى عليه بلا مبرر هي عين الظلم متى تبين الحق لأحدهما، فإذا ادعى رجل على آخر أنه غصب بيتًا له مثلًا، وتبين للقاضي صحة الادعاء، فحكم بأن يكون البيت مناصفة بينهما، فهو عين الظلم، ومساواة الورثة في الأنصبة المستحقة ظلم بيِّن لكثيرين ميَّز الله نصيبهم على غيرهم، مع أن ظاهر الأمر تسوية بين المستحقين، والعدل هنا يقتضي إعطاء كل وارث حقه المنصوص عليه، وإن كان يزيد أو ينقص عن نصيب ورثة آخرين معه في نفس التركة؛ لأن الله قسمها هكذا متفاوتة على أساس الحاجة وقرب الوارث وبُعده من الميت، ولذا فإن ادعاء تحقيق العدالة بتسوية المرأة بالرجل في الميراث هو عين الظلم لها، ولا سيما أن هناك حالات كثيرة أعطى الله فيها للمرأة أكثر من الرجل، فإن كانت التسوية تنصفها في زعم الزاعمين في أربع حالات تحديدًا أخذ فيها الرجل ضعف نصيب المرأة، وهي البنت مع الابن، وبنت الابن مع ابن الابن، والأخت الشقيقة مع الأخ الشقيق، والأخت لأب مع الأخ لأب، على ما في هذه التسوية من ظلم بيِّن للذكر الذي يتحمل أعباء مالية من نفقات زواج وإنفاق على الزوجة تزيد ربما أضعافًا على ما تتحمله أخته التي سيتزوجها رجل يدفع لها مهرًا وينفق عليها، ومن ثم فإن المرأة ستُظلم بقاعدة التسوية هذه في كثير من الحالات التي زاد نصيبها على نصيب الرجل وربما الرجال؛ فنصيب البنت مع زوج أمها الميتة ثلاثة أضعاف نصيب الزوج؛ حيث سيأخذ هو الربع فقط بسبب وجودها، في حين تأخذ هي النصف فرضًا، وهو يعادل نصيب الزوج مرتين إضافة إلى الربع الباقي ردًّا، فيكون نصيبها ثلاثة أضعاف نصيبه، والتسوية بينهما تفقدها ربع التركة؛ حيث سيذهب للزوج، وهذا ظلم وأكل لمالها بالباطل، وقد يكون الزوج هنا والدًا للبنت، وقد يكون زوج أم فقط، وفي الحالين يكون هناك ظلم لها؛ لأن الذمم المالية في شريعتنا منفصلة، ونصيب أم الميت ضعف نصيب أخيه من الأم الذي هو ابنها في نفس الوقت؛ حيث ترث الأم الثلث ويرث الأخ لأم السدس ويرد الباقي بينهما بنفس النسبة، ليبقى نصيب الأم النهائي ضعف نصيب ابنها أخي الميت مع أنه ذكر، ومثل هذا كثير في الميراث.
ولذا، كان التدخل في نظام المواريث العادل الذي راعى الأعباء المالية والجيل الوارث، وربما هناك حكم أخرى خفيت علينا، مخلًّا بالعدالة وجالبًا للظلم مع أن مدخله هو طلب المساواة، وحتى لا يحدث هذا من البشر جاءت آيات المواريث حاسمة ولم تترك مجالًا لتأويلها؛ حيث نصت على الفرضية صراحة؛ إذ يقول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، ويقول عز وجل: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}، واختتمت الآيات بقول الله تعالى محذرًا من التلاعب فيها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة