عندما أبرمت القوى الدولية الكبرى الاتفاقية النووية، مع إيران، برعاية إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بدا واضحا أنه الإدارة الأمريكية السابقة تجاهلت المخاوف الكبيرة لدى دول الخليج، جراء التداعيات المترتبة على تقارب واشنطن مع طهران، حيث كانت الأولوية لديه هو تقييد القدرات النووية، بينما لم يضع فى اعتباره مخاوف دول الجوار، جراء الدور الذى يلعبه النظام الإيرانى فى إثارة الفوضى فى المنطقة، والتهديدات التى يمثلها لهم، ناهيك عن جهوده التى يبذلها لتطوير قدراته التسليحية، عبر تجارب الصواريخ الباليستية التى يقوم بإجرائها.
ولعل المحاور التى تجاهلها أوباما وإدارته كانت بمثابة المنصة التى أطلق منها ترامب سهام الانتقاد للاتفاقية، التى تم التوقيع عليها فى يوليو 2015، وبالتالى كانت السبب الرئيسى وراء قراره بالانسحاب منها فى مايو 2018، حيث دعا إلى ضرورة عقد اتفاقية جديدة، لا تقتصر فى نتائجها على الحد من أنشطة طهران النووية، ولكنها تمتد إلى تقييد دورها فى تهديد الحلفاء من دول الجوار، بالإضافة إلى توقفها عن دعم الإرهاب فى المنطقة، بالإضافة إلى توقفها عن تطوير أسلحتها غير النووية، وعلى رأسها الصواريخ الباليستية، والتى حاولت من خلالها طهران استفزاز ليس فقط محيطها الإقليمى، ولكن المجتمع الدولى بشكل عام.
رؤية ترامب.. مباركة الخليج شرط الاتفاق مع طهران
وهنا يمكننا القول أن رؤية ترامب تجاه أى اتفاق محتمل مع طهران، يقوم فى الأساس على مباركة الجوار الإقليمى لها، من أجل ضمان الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يبدو واضحا فى حديثه عن ضرورة توسيع المشاركة فى الاتفاقية الجديدة، التى يسعى إلى إبرامها، مع الدولة الفارسية، بحيث تشمل دولا أخرى غير تلك التى وقعت فى الاتفاقية الأولى قبل ما يقرب من 4 سنوات، والتى ضمت كلا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بالإضافة إلى كلا من روسيا والصين إلى جانب الولايات المتحدة، وهى المجموعة التى يطلق عليها (مجموعة الـ 5+1)، فى إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن بجانب ألمانيا.
قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووى
يبدو أن توسيع المشاركة فى الاتفاقية النووية الجديدة التى يحاول الرئيس الأمريكى إبرامها مع طهران، لا تستبعد تواجد دول الخليج الرئيسية، والتى تشعر بقلق بالغ تجاه الأنشطة الإيرانية فى المنطقة، وذلك لتحقيق أكبر قدر من الضمانات لتلك الدول حول أمنها واستقرارها، فى المرحلة المقبلة، وبالتالى فلن يتحقق التقارب الأمريكى الإيرانى إلا بمباركة دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
دعوة إيران.. رضوخ تدريجى لمطالب ترامب
ولعل الدعوة التى أطلقها وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف، لعقد اتفاقية عدم اعتداء، مع دول الخليج العربية، وذلك خلال الزيارة الأخيرة التى قام بها فى العراق، تمثل دليلا دامغا على إدراك الرسالة الأمريكية، والتى تحمل مضمونا واحدا، وهو أن النجاة من عصا العقوبات الأمريكية والتخلص من حالة العزلة الدولية، التى تعيشها حاليا الحكومة الإيرانية، مرهون بالسلام مع دول الجوار، والذين يمثلون حلفاء رئيسيين للولايات المتحدة.
جواد ظريف دعا إلى اتفاقية عدم اعتداء مع الخليج
وهنا تصبح الدعوة الإيرانية المثيرة للجدل انعكاسا صريحا لحالة يمكننا تسميتها بـ"الرضوخ التدريجى" لطهران لمطالب واشنطن، خاصة وأنها تسعى، رغم التصريحات الرسمية المتعنتة، إلى استجداء الوساطات بين دول العالم، لتخفيف وطأة الضغوط التى تفرضها إدارة ترامب، عبر الجلوس على مائدة التفاوض.
فلو نظرنا إلى مسألة الوساطة، نجد أنها لم تكن بعيدة عن تصريحات المسئولين الذين قام وزير الخارجية الإيرانى بزيارتهم فى الأسابيع الماضية، وعلى رأسهم اليابان، والتى قام جواد ظريف بزيارتها مستبقا زيارة قام بها ترامب فى اليومين الماضيين، فى إشارة صريحة لدور قوى محتمل سوف تقوم به طوكيو فى الأيام القادمة للوساطة بين واشنطن وطهران، فى ظل تواتر التقارير حول إمكانية قيام رئيس الوزراء اليابانى بزيارة إلى طهران فى شهر يونيو المقبل.
أمن الحلفاء.. النهج الأمريكى أتى بثماره مع كوريا الشمالية
وتعد رؤية ترامب، والتى تقوم على ضمان أمن الحلفاء، قبل أى اتفاق يمكن إبرامه مع الخصوم، ليست جديدة بأى حال من الأحوال، حيث سبق وأن تبنى النهج نفسه مع كوريا الشمالية، حيث كانت خطوات النظام الحاكم فى بيونج يانج للتقارب مع جارتها الجنوبية بعد خصومة دامية استمرت لما يقرب من ثمانية عقود من الزمان، حيث كانت المدخل الذى فتح الباب أمام المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية، ومن ثم انعقاد القمة التاريخية الأولى التى جمعت بين الرئيس الأمريكى، ونظيره الكورى الشمالى كيم جونج أون، فى يونيو 2018، بسنغافورة.
إيران تحاول استلهام نهج كوريا الشمالية بالتقارب مع جيرانها
يبدو أن الحكومة الإيرانية تسعى إلى استلهام النهج الكورى الشمالى، عبر التقارب مع خصومها فى محيطها الإقليمى، والذين يمثلون حلفاء واشنطن التاريخيين، فى المرحلة الراهنة، عبر إبرام اتفاقية تاريخية تقدم فيها طهران ضمانات صريحة لعدم الاعتداء عليهم أو تهديد أمنهم فى المستقبل، وهو ما قد يترتب عليه فى النهاية الوصول إلى مائدة المفاوضات مع واشنطن.
إلا أن انعدام الثقة من قبل الجيران الخليجيين تجاه النوايا الإيرانية، تبقى المعضلة الرئيسية التى قد تواجهها طهران فى المرحلة المقبلة، وذلك فى ظل العديد من السوابق التاريخية التى انتهكت فيها الدولة الفارسية التزاماتها، ولعل أخرها كان عودتها لتخصيب اليورانيوم فى انتهاك صريح للاتفاق النووى الذى طالما تشدقت به لمجابهة قرار الانسحاب الأمريكى من الاتفاقية النووية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة