أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

حتى يموت حسن البنا!

الإثنين، 06 مايو 2019 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن وضعًا طبيعيًّا بالمرّة، أن تواصل جماعة الإخوان نشاطها، وتُحافظ على قواعدها وتنظيماتها المُنتشرة على امتداد مصر، بهياكل عنقوديّة تبدأ من الشوارع والأحياء، وصولاً إلى قيادة مركزيّة مُعلنة، يجلس فى القلب منها مُرشِد يتمتَّع بوضعيّة اجتماعية وسياسية وإعلامية مُميّزة، بينما تنظر الدولة ومؤسَّساتها للجماعة باعتبارها كيانًا محظورًا.
 
أذكر من مُفارقات الماضى القريب شريطًا وثائقيًّا بثَّه برنامج «اختراق»، الذى قدّمه الإعلامى عمرو الليثى عبر شاشة التليفزيون المصرى لسنوات، حضر ضمن مصادره الوجه الإخوانى الراحل مأمون الهضيبى بتوصيف «مُرشد جماعة الإخوان المسلمين المحظورة».. تلك المفارقة لم تكن خطأ عابرًا أو تحايلاً من إعلامى وفريقه على موقف سياسى وقانونى تتَّخذه الدولة ومؤسَّساتها، وإنَّما كان موقفًا عامًّا ترسَّخ مع السنين، فى اتفاق ضمنىٍّ بين الجماعة ونظام مبارك، يجرى من خلاله استغلال الوضعيَّة القانونية غير المُستقرّة للتنظيم كورقة ضغط وتفاوض، بينما تُوظِّف الجماعة فى مُقابلها أوراقًا عدّة، تبدأ من الحوارى والمساجد والملاعب ومراكز الشباب، وتنتهى إلى إدارة مشهد المعارضة السياسية فى نطاق المواءمة المحسوبة و«التورتة» مُوزَّعة الأنصبة، باحترامٍ ثابتٍ لا تتجاوزه الجماعة، وصمتٍ ناعمٍ لا يخترقه النظام فى اتجاه القضاء عليها وتصفية قواعدها.
 
تلك المعادلة المحسوبة حافظت على وضعية دولية مقبولة للتنظيم، وباعتبار القاهرة المركز الروحى والفكرى للجماعة، فقد مَثّل استقرار مكتب الإرشاد بالعاصمة المصرية مُنطلقًا ذهبيًّا لتعظيم حضور التنظيم الدولى، الذى اتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقرًّا له، وتوسَّع شاملاً عددًا من العواصم الأوروبية والمدن الأمريكية، إضافة إلى معاقل كبرى فى جنوب شرقىِّ آسيا. ولأن التنظيم الدولى تأسَّس بشكلٍ مُبكِّر نسبيًّا، مع النزوح الأول لكوادر الجماعة عقب قرار حلّها وتصفية مكاتبها إثر محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى المنشية بالإسكندرية «أكتوبر 1954» فإن ستّة عقود متواصلة من العمل ضمنت لها تجذُّرًا واسع المدى فى مجتمعات النزوح الغربية، وربما بفضل تلك الوضعية، بدا الحديث الراهن عن اتجاه الإدارة الأمريكية لوضع الجماعة على لائحة المنظمات الإرهابية حديثًا مُعقّدًا نوعًا ما، وللسبب نفسه تبدو مواقف الجماعة أكثر اطمئنانًا إلى قدرتها على ممارسة ضغوط وإحداث توازنات فى بنية السياسة الأمريكية.
 
فى تقرير صحفى نشره موقع «عربى بوست» الموالى للجماعة، نقلا عن «نيويورك تايمز»، قال ديفيد كيركباتريك، مراسل الصحيفة السابق بالقاهرة، إن مساعى الرئيس الأمريكى لإدراج الإخوان كمنظمة إرهابية ستبوء بالفشل، مُعلِّلاً الأمر بعدم توفّر أدلّة قاطعة على تورُّط الجماعة فى أعمالِ عُنفٍ ضارّة بمصالح الولايات المتحدة، بما يقطع برفض القضاء الأمريكى للأمر، زاعمًا أن مسؤولين فى وزارة الدفاع «البنتاجون» ونوابًا ديمقراطيِّين فى الكونجرس بمجلسيه، يرفضون المقترح بدعوى عدم انطباق التعريف القانونى للمُنظّمات الإرهابية على الإخوان، وكون الأمر يحمل مخاطر التسبُّب فى عواقب وتداعيات سلبيّة فى دول حليفة تملك فيها الجماعة أحزابًا سياسيّة، قاصدًا على ما يبدو «العدالة والتنمية» فى تركيا، و«النهضة» فى تونس، و«العدالة والتنمية» فى المغرب، و«جبهة العمل الإسلامى» فى الأردن، وغيرها. 
 
دخول مراسل «نيويورك تايمز» الأمريكية على خطّ المحاولات المتواصلة لتفخيخ المقترح، لا ينفصل عن محاولات الجماعة للتحرُّك فى اتجاه إحباط خطة «ترامب» وإدارته، بالنظر إلى علاقات «كيركباتريك» الوطيدة بالجماعة إبان عمله فى مصر بالتزامن مع توترات المشهد السياسى عقب ثورة 25 يناير، واستمرار تنسيقه مع الأجنحة الإعلامية المُنبثقة عن التنظيم الدولى والمكتب الإدارى بالخارج، الذى يديره محمود حسين وأحمد عبدالرحمن من تركيا، وأبرز حلقات التنسيق التى تمثّلت فى نشره تقارير عديدة مصنوعة من خلال لجان الجماعة، أبرزها نسب تصريحات عدائية تجاه القوات المسلحة للمستشارة تهانى الجبالى، وهو ما نفته نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا السابق بشكل مباشر خلال العام 2014، ثم اختلاقه معلومات عن عمل وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى مُستشارًا أمنيًّا فى إحدى الدول الخليجية، قبل ثبوت وجوده فى مصر والقبض عليه بموجب دعاوى قضائية وأحكام صادرة بحقّه، وأيضا إعداده تقريرًا مُختلَقًا عن تسريبات منسوبة لمسؤول أمنى مع عدد من الإعلاميين، تبيَّن لاحقًا أنها صُنعت من خلال لجان الجماعة الإعلامية بغرض بثّها عبر قناة «مكمّلين»، لكن الجماعة مَرَّرتها إلى «كيركباتريك» لإكسابها مصداقية من بوابة نسبتها إلى «نيويورك تايمز» وعلامتها التجارية ذائعة الصيت.
 
مسار الحلفاء المُتمثِّل فى استمالة الإعلاميين المرتبطين بخطوط اتصال وتنسيق مع الجماعة وأجنحتها الدولية، يتزامن مع تحرّكات تنشط فى أروقة الجمعيات والمُنظّمات المملوكة للجماعة بالولايات المتحدة، فى مقدمتها مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، وتجمّعات ومراكز إسلامية فى واشنطن وبوسطن وعدة ولايات أخرى. وتحرّكات قيادى الجماعة هانى القاضى لإحباط الخطّة بالتنسيق مع نواب ديمقراطيين بالكونجرس، بحسب ما نقلته قنوات الجماعة التى تبثّ من تركيا، والأمر نفسه يحدث من خلال مسار مها عزام، الأستاذة بجامعة كامبريدج البريطانية وزعيمة ما يُسمّى «المجلس الثورى» الذى يضم أجنحة نشطة فى باريس وبرلين وستراسبورج وعدد من المدن الأوروبية والأمريكية.
 
استماتة الجماعة فى المواجهة الاستباقية قد لا تُحقِّق لها ما تتوقَّعه من نجاح فى إحباط تحرّكات الإدارة الأمريكية، خاصة مع حديث الرئيس دونالد ترامب عن الأمر أكثر من مرّة، وتواتر تصريحات واضحة على ألسنة عدد من مسؤولى الإدارة الأمريكية وكبار موظفيها. قبل أسبوع تقريبًا قالت سارا ساندرز، المتحدِّثة باسم البيت الأبيض، فى تصريحات نقلتها هيئة الإذاعة البريطانية BBC، إن «الرئيس تشاور مع فريق الأمن القومى وزعماء المنطقة الذين يشاركونه القلق، وضمّ الإخوان لقائمة المنظمات الإرهابية يأخذ مساره بالدوائر الداخلية لصنع القرار»، ولاحقًا توسّع الأمر ليتردَّد فى تصريحات وأحاديث لوزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومى جون بولتون، ونواب جمهوريين كُثر، أبرزهم جودى هايس وماريو دياز بلارت.
 
حال اتِّجاه الخطّة فى مسارها الطبيعى، وصولا إلى صدور قرار بإدراج الإخوان على لائحة المُنظَّمات الإرهابية، لن تكون الولايات المتحدة البلد الأول الذى يتَّخذ تلك الخطوة، لكنه سيكون الأكثر تأثيرًا دون شكّ، فى ضوء الحضور السياسى والاقتصادى الذى تشغله واشنطن، وارتباطها بمحاور عمل الجماعة بين أوروبا وآسيا، وكونها معقلاً رئيسيًّا من معاقل التنظيم الدولى ومجموعات الخارج النازحة عقب ثورة 30 يونيو. ومع انضمام الولايات المتحدة إلى 7 دول وتجمُّعات سابقة اتَّخذت قرارات حاسمة تجاه الجماعة، فإن «الإخوان» ستجد نفسها ربما للمرة الأولى فى مواجهة مأزق وجودى حقيقى، يُهدِّد ما تبقّى لديها من قدرة على المناورة واختراق الحصار الإقليمى فى مصر وعدد من الدول العربية، خاصة مع ارتباط التصنيف الأمريكى باتخاذ إجراءات عقابية ضد الدول والحكومات الداعمة للتنظيم والمتعاملة معه، وهو ما سيحدّ بالتأكيد من حضور تركيا وإيران وقطر وماليزيا وإندونيسيا فى المشهد الإخوانى، وسيجبر تلك الدول وغيرها على اتخاذ تدابير وقائية، ستطال دون شكّ مراكز الجماعة المالية وقدرتها على الحركة والحشد وضمان استدامة مواردها واستثماراتها.
 
قائمة الدول التى تُصنِّف الإخوان جماعة إرهابية بدأت بسوريا التى اتخذت القرار فى العام 1982 عقب سلسلة تفجيرات نفّذتها عناصرها بحق مجموعات من الروس والسوريِّين، تلتها روسيا فى 28 يوليو 2006 عقب تورّط الجماعة فى أعمال عنف شمالىّ القوقاز ذات الأغلبية المُسلمة، ثمّ مصر فى 23 ديسمبر 2013 بقرار حكومة المهندس إبراهيم محلب، الذى تضمَّن حظر أنشطة التنظيم ومُصادرة أمواله وإخطار الدول العربية المُنضمَّة لاتفاقية مكافحة الإرهاب 1998 بغرض اتخاذ إجراء مماثل تجاه الجماعة، تلتها السعودية فى 7 مارس 2014، وكندا فى 5 إبريل 2014 بموجب قرار برلمانى بأغلبية كاسحة على خلفية التماس من الجالية المصرية، والإمارات فى 15 نوفمبر من العام نفسه ضمن قائمة ضمَّت 83 منظمة، واتّسعت رقعة الحصار لتشمل الدول الستّ الموقعة على «معاهدة الأمن الجماعى» إلى جانب روسيا، وهى: بيلاروسيا، وأرمينيا، وقرغيزستان، وكازاخستان، وأوزبكستان وطاجيكستان، ضمن قائمة ضمَّت 31 منظمة إرهابية.
 
المأزق الذى تُشكّله جماعة «الإخوان» فى الوقت الحالى، يعود فى المقام الأول إلى رعونة المؤسَّسات المصرية فى التعامل معها قبل سبعة عقود، فالجماعة التى تأسَّست خلال العام 1928 سرعان ما شكّلت جناحًا مُسلَّحًا باسم «النظام الخاص»، ومع تورُّطه فى أعمال عدائية بحقّ اليهود والأقليَّات ووجوه من السياسيين والقضاة الذين أصدروا أحكامًا ضد عناصره، اضطُرّ رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى لإصدار قرار بحظر الجماعة فى 8 ديسمبر 1948، بموجب الأمر العسكرى رقم 63 الذى نسب لها جريمة «التحريض والعمل ضدّ أمن الدولة»، ورغم انتقام الجماعة بعد أقل من ثلاثة أسابيع باغتيال «النقراشى» من خلال أحد أعضاء النظام الخاص، فإن الدولة لم تتحرَّك بشكل جادّ للقضاء على التنظيم، وتكرَّر الأمر عقب محاولة اغتيال «عبدالناصر» وصدور قرار بالحلّ فى 29 أكتوبر 1954، ولم تتحرَّك المؤسَّسات أيضًا لإنهاء وجود التنظيم، ثمّ تحالف الرئيس الراحل أنور السادات مع الجماعة ومُرشدها عمر التلمسانى طوال حقبة السبعينيَّات، بغرض مواجهة مَدّ الناصريين والشيوعيِّين داخل الجامعات، لينتهى الأمر باغتيال السادات وبدء جولة جديدة من الحظر، امتدَّت حتى ثورة 25 يناير، وفق قواعد مرسومة بين نظام مبارك ومكتب الإرشاد، سمحت للجماعة بالتحالف مع أحزاب الوفد والعمل والأحرار فى الانتخابات البرلمانية 1984 و1987، وتأجير صحيفة «آفاق عربية» من الأخير، لتكون لسان حال الجماعة لسنواتٍ عدّة، دون أىّ تحرّكٍ جادٍّ لحصار الجماعة المحظورة، أو ترجمة الحظر إلى ممارساتٍ عمليَّة، حتى وصل الأمر فى السنوات الأخيرة قبيل ثورة يناير إلى أنها أصبحت أكثر التيارات السياسيّة قُدرة على الحركة والانتشار والتأثير فى الشارع والتلاعب فى توجَّهات التصويت وحشد الناخبين، مقابل ضَعفٍ مُزرٍ سيطر على الأحزاب السياسية التى تجاوز عددها ثمانين حزبًا وقتها.
 
السنوات التالية لثورة 30 يونيو شهدت اتَّخاذ الدولة المصرية موقفًا جادًّا من الجماعة، رُبّما للمرة الأولى طوال تاريخها المُمتدّ على ثمانية عقود، عبر حصار هياكلها وتنظيماتها، وحصر ممتلكاتها وشركاتها، ومُصادرة أموالها ووضع أعضائها على قوائم الإرهاب، وتطبيق القانون على من يثبُت انتماؤهم للتنظيم، لكن تلك التحرُّكات لن تقضى على التنظيم ما لم تُتَرجَم إلى موقفٍ دولىٍّ واسع المدى، يُحكم الخناق على التنظيم الدولى وأجنحته الإقليمية المُمتدَّة بين أوروبا وآسيا ودول أفريقية عديدة، بشكل يسمح بتجفيف منابعه دفعةً واحدة، وحرمانه من استراتيجيَّته التى أجاد اللعب بها طوال العقود الماضية، عبر توظيف بعض المراكز كمخازن وخطوط دعم وإمداد مالى وبشرى لأطرافه التى تواجه أزمات قانونية أو سياسية فى بلدانها.
 
من تلك الزاوية تبرز أهمية الخطوة الآخذة فى التشَكُّل داخل الإدارة الأمريكية وفى أروقة البيت الأبيض، وتستشعر الجماعة خطرًا رُبَّما لم تُعاينه طوال سنوات اختراقها لحزمة الدول والحكومات والأنظمة التى تحضر فى ملاعبها، إذ إنها تواجه للمرة الأولى احتمال الخروج من حلبة الصراع بالكامل، بدلاً من المُناورة والوقوف على خطّ التَّماس، أو الاحتماء بلاعبٍ فى مُقابل آخر. الآن يبدو المشهد أقرب إلى ضربة قاضية تُوشك أن تهوى على رأس التنظيم، بينما يقف داعموه مَكتوفى الأيدى، عاجزين عن المُجاهرة بالحماية أو المُبادرة بالاشتباك، وإذا كانت قواعد الجغرافيا والاقتصاد لم تسمح لمصر ودول المنطقة بتوجيه تلك الضربة، فليس أقل من حصار مُحاولات الهروب منها، سواء بتعزيز موقف الإدارة الأمريكية فى مواجهة خصومها الداخليِّين، أو مُوازنة إغراءات الفريق الداعم للجماعة (خاصّة تركيا وقطر) الذى قد يُلوّحُ بالذهب والجَزَر لـ«ترامب» لقاءَ افتداءِ التنظيم، وإذا تدَّخلت الدول الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها الرباعى العربى (مصر والسعودية والإمارات والبحرين)، لوضع خطوة إقصاء الجماعة ضمن ميزان المصالح المشتركة مع واشنطن، فقد ينجح «ترامب» فى استكمال ضربته القاضية، والقفز على دوائر الجماعة وداعميها بالكونجرس وقادة الرأى والإعلام و«بارونات» المُنظَّمات الأهلية والحقوقية. ووقتها فقط سيموت حسن البنا، وينتهى إجرامه المفتوح منذ ثمانية عقود.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة