فى الوقت الذى يتعرض فيه وزير الخارجية الأمريكى إلى إهانات بالغة من قبل مسئولى كوريا الشمالية، وصلت إلى حد المطالبة باستبعاده من أية مفاوضات مستقبلية بين واشنطن وبيونج يانج، يبقى رد فعل الرئيس دونالد ترامب هادئا للغاية، وهو ما يمثل مباركة ضمنية للمطلب الذى أعلنه النظام الكورى الشمالى، فى خطوة تمثل انعكاسا صريحا ليس لمجرد علاقة شخصية متوترة، بين الرئيس ووزير خارجيته، وإنما تحمل فى طياتها ازدراءً صريحا للمنصب الذى طالما كان أحد أبرز المناصب داخل الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
مواقف الرئيس ترامب، والتى تحمل تجاهلا صريحا بل وأحيانا تعارضا مع مواقف وزارة الخارجية الأمريكية، تمثل امتدادا صريحا لسياساته التى سبق وأن تبناها مع المسئولين السابقين فى الإدارة الحالية، حيث عمد ترامب إلى إحراجهم، عبر تبنى مواقف متعارضة مع رؤيتهم، فى خطوة تمثل التمهيد لإقالتهم من مناصبهم، وعلى رأسهم وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون، والذى كان يعارض الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى مع إيران، فكانت الإقالة هى بمثابة العقاب المنتظر من قبل الرئيس الأمريكى، فى مارس من العام الماضى، ليخلفه مايك بومبيو فى المنصب منذ ذلك الحين.
مايك بنس.. ذراع ترامب الدبلوماسى
إلا أن نهج ترامب فى التعامل مع بومبيو يبدو مختلفا إلى حد كبير، حيث لم يكتفى الرئيس ترامب بمجرد معارضة مواقفه تجاه القضايا الدولية، وإنما امتدت إلى تهميشه للوزارة برمتها، لصالح نائب الرئيس مايك بنس، والذى بات يلعب دورا بارزا على الصعيد الدبلوماسى، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الشائكة التى تمثل أولوية قصوى فى أجندة الإدارة الحالية، وهو ما يعد أمرا غير مسبوق، حيث لم يحظى نواب الرؤساء السابقين بمساحة واسعة فى مجال السياسة الخارجية، مما يثير التساؤلات حول هوية المسئول الفعلى عن الدبلوماسية الأمريكية وصياغتها فى المرحلة الراهنة.
فلو نظرنا إلى مؤتمر وارسو، والذى عقد فى شهر فبراير الماضى، بهدف تشكيل تحالف دولى لدحض النفوذ الإيرانى المتنامى فى منطقة الشرق الأوسط، نجد أن الوفد الأمريكى كان برئاسة نائب الرئيس الأمريكى، وذلك على الرغم من أن المؤتمر كان فى الأصل على مستوى وزراء الخارجية، حيث ألقى بنس كلمة الولايات المتحدة أمام الحضور، الذين جاءوا من مختلف مناطق العالم.
ولم يتوقف دور بنس عند هذا الحد، ولكنه امتد كذلك إلى منطقة أمريكا اللاتينية، حيث يلعب نائب ترامب دورا بارزا فى الجهود التى تبذلها واشنطن، لزيادة الضغوط على الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو، حيث قام بجولة إلى دول المنطقة بحثا عن تشكيل تحالف دولى لمحاربة النظام الحاكم فى كاراكاس، وتقديم الدعم للمعارضة بقيادة خوان جوايدو، والذى نصب نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد فى يناير الماضى.
اعتماد إدارة ترامب على بنس فى الأزمة الفنزويلية، تجلى بوضوح فى حضوره لجلسة مجلس الأمن التى عقدت لمناقشة الوضع الإنسانى هناك، والتى كانت على مستوى المندوبين الدائمين، حيث كان ظهوره فى المشهد مفاجئا وغير متوقعا، ليلقى كلمة الولايات المتحدة، فى الوقت الذى كان فيه الوزير بومبيو غائبا.
رجل المهام الصعبة.. بنس مسئول تشكيل التحالفات الدولية
وهنا يمكننا القول بأن مايك بنس هو رجل المهام الدبلوماسية الصعبة، حيث اعتمدت عليه إدارة ترامب بصورة كبيرة فى الآونة الأخيرة للتعامل مع القضايا الشائكة، خاصة المتعلقة بتشكيل تحالفات دولية لمجابهة الخصوم، فى انعكاس صريح لرغبة الإدارة الحالية لتهميش دور وزارة الخارجية، وهو الأمر الذى لا يبدو جديدا، حيث بدأ الرئيس ترامب حقبته بتخفيض الميزانية المخصصة للمؤسسة الدبلوماسية، فى الوقت الذى سعى فيه إلى زيادتها لمؤسسات أخرى، وعلى رأسها وزارة الدفاع، وبالتالى قامت الإدارة باستبعاد عدد من الدبلوماسيين المخضرمين، فى إطار رغبتها فى تخفيض ميزانيتها.
يبدو أن الدور الوحيد الذى لعبته وزارة الخارجية فى حقبة ترامب تمثل فى استعادة العلاقات مع دول الخليج، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، وذلك بالاعتماد على تيلرسون، والذى حظى بعلاقة قوية مع هذه الدول بحكم وظيفته السابقة كمدير تنفيذى سابق لشركة "إكسون موبيل"، بينما تراوحت المهام الدبلوماسية بين وزارة الدفاع والبيت الأبيض بعد ذلك، حيث اتجه ترامب إلى الاعتماد على وزير الدفاع الأمريكى السابق جيمس ماتيس، لتحقيق بعض الأهداف الدبلوماسية، خاصة فيما يتعلق بطمأنة الدول الحليفة فى أوروبا لنوايا واشنطن بعد التهديدات المتواترة التى أطلقها ترامب بالانسحاب من حلف الناتو، وهو ما يفسر حالة الصدمة التى انتابت دول القارة العجوز بعد القرار بإقالته فى ديسمبر الماضى.
إقالة محتملة.. بومبيو استبق القرار المرتقب
يبدو أن وزير الخارجية الأمريكى شعر بتهميشه إلى حد كبير فى الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذى دفعه إلى الحديث صراحة عن احتمالات إقالته، حيث أكد فى تصريح قبل عدة أسابيع أنه باق فى منصبه حتى يغرد ترامب بإقالته عبر حسابه على موقع "تويتر"، وهو التصريخ الذى أثار حالة من الجدل فى ذلك الوقت، ليغلق الباب أمام الحديث الدائر داخل العديد من الأروقة سواء الحكومة أو الإعلامية، حول احتمالات تقديمه لاستقالته.
حديث بومبيو حول إقالته المحتملة عبر "تويتر" يحمل فى طياته توترا كبيرا فى العلاقة، ربما برزت بعد ذلك جراء المواقف التى تبناها ترامب تجاه العديد من القضايا، والتى شهدت خلافات جذرية فيما بينهما، وهو ما يمثل امتدادا للتعارض الكبير فى الرؤى بين ترامب ومن يمكننا تسميتها بـ"صقور" الحزب الجمهورى فى المرحلة الراهنة، والتى بدت متوترة فى العديد من القضايا، وعلى رأسها التقارب مع كوريا الشمالية، وكذلك قرار الانسحاب العسكرى من سوريا وغيرها؟