ضج الحاضرون فى المسجد بالبكاء، ولطم بعضهم الخدود حزنًا وأسفًا.. كان الحدث جللًا، لا يصدقه أحد، ووقع فى عام 1943، وبطله هو مقرئ القرآن الكريم الشيخ محمد رفعت الذى يصفه الكاتب محمود السعدنى، فى كتابه «ألحان السماء»: «فريدًا غريبًا، باهرًا، وسر غرابته أنه استمد طبيعته من جذورالأرض.. صوت الشعب.. فمن أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين، استمد صوته فخرج مشحونا بالأمل والألم، مرتعشا بالخوف والقلق، عنيفا.. عنف المعارك التى خاضها الشعب، عريضا عرض الحياة التى يتمناها».
«هو خير من رتل القرآن وخير من تلاه فى زماننا وإلى أن يشاء الله، كان هذا هو رأى الشيخ المراغى شيخ الأزهر الأسبق فى الشيخ محمد رفعت قيثارة السماء الذى ولد بحى المغربلين بالقاهرة فى مايو عام1882»،حسبما تذكر سناء البيسى فى مقالها «محمد رفعت قيثارة السماء - الأهرام 21 فبراير 2009».. أما الدكتور نبيل حنفى محمود فيراه فى كتابه «نجوم العصر الذهبى لدولة التلاوة»، صاحب أوجه إعجاز كثيرة فى تلاوة القرآن الكريم، «ولكنه يمكن القول بأن الأهم بل والنادر من تلك الأوجه يتبلور فى وجهين.. أولهما فى نفاسة الصوت، بينما يجىء ثانيهما من فهم الشيخ لما يقرأ من آيات الذكر الحكيم».
كان الكاتب والناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى واحدا من شهود «الحدث الجلل»، ويرويه فى كتابه «أصوات وألحان عربية»، قائلًا: «كان يتلو سورة الكهف فى مسجد «فاضل باشا» يوم الجمعة كعادته منذ 30 عامًا، فلما بلغ الآية «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا»، غص صوته واحتبس فى كلمتين أو ثلاث، فسكت قليلًا يقاوم ما ورد عليه من الغصة والاحتباس، ثم عاد يتلو تلاوة متقطعة حتى ملأت الغصة حلقه وحبست صوته تمامًا، هنا حنى الشيخ العظيم رأسه جريح القلب لا يدرى ماذا يصنع، ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فيها سائل أحمر يبدو أنه دواء أحضره له بعض الصيادلة، فاحتسى قليلًا ثم انتظر برهة وعاد يحاول التلاوة، فأطاعه صوته فى آيتين أو ثلاث، ثم قهرته الغصة وكسرت شوكة الدواء الأحمر، فتوقف الشيخ العظيم حائرًا بعض الوقت ثم غادر مجلسه تاركًا إياه لشيخ آخر يتلو ما تيسر من السور. كانت لحظة قاسية عنيفة اهتزت لها أعصاب الحاضرين فى المسجد فضجوا بالبكاء ولطم بعضهم الخدود حزنًا وأسفًا، وارتفع صراخ المقرئين الشبان الذين كانوا يلتفون حول الشيخ العظيم كل جمعة يحاولون أن يتلقنوا بعض أسرار صناعته وفنه وطريقته، وبعد الصلاة خرج الناس وعيونهم فيها الدموع، وقلوبهم تحف بالشيخ الحزين، لايدرون أيواسونه أم يواسون أنفسهم؟».
احتبس صوت «رفعت»، «بمرض الفواق بعد سنوات عمت شهرته البلاد وطبقت الآفاق»، حسبما يذكر «حنفى»، مؤكدًا: «رفعه حب الناس والتفافهم حول صوته ليصبح القارئ الأول فى مصر.. وانطلق يتلو عند افتتاح محطة الإذاعة الحكومية فى 31 مايو 1934 ما يتيسر له من سورة «الفتح»، فكان بذلك أول من تلا القرآن فى تاريخ الإذاعة الحكومية».. يضيف «حنفى».
«كان مرضه ابتلاء أكبر مما ابتلى به الشيخ بفقده بصره».. و«اشتد عليه وتقبله راضيًا، وأبت عليه عزة نفسه أن يمد يده لأحد طالبًا العون فى مصاريف العلاج الباهظة»، وفقًا للكاتب الصحفى أيمن الحكيم فى مقاله «المتحدث باسم الله–رسائل العشاق»، «الدستور 19 سبتمبر 2018»، مضيفا: «باع بيته وقطعة أرض يملكها ولم يقبل التبرعات التى جمعها المحبون له ووصلت إلى ٢٠ ألف جنيه، وبضغط وإلحاح تلميذه وصديقه الشيخ أبوالعينين شعيشع وافق على قبول المعاش الشهرى الذى خصصه له وزير الأوقاف الدسوقى باشا أباظة، وقبل وفاته بأقل من عام، وفى يوليو ١٩٤٩نشرت مجلة «المصور» تحقيقين عن مرض الشيخ ومعاناته، فتبنى الكاتب الصحفى أحمد الصاوى محمد، حملة لعلاج الشيخ من خلال اكتتاب شعبى، ونجح فى جمع ٥٠ ألف جنيه، ولما علم الشيخ كتب إليه: «أنا مستور والحمد لله ولست فى حاجة إلى هذه التبرعات، والأطباء يعالجوننى ولكنهم لم يستطيعوا وقف هذا المرض ومنعه، كما أن هذه المبالغ أصحابها أولى بها منى، فهم الفقراء والمحبون لصوتى حقا، لكنى الحمد لله لست فى حاجة إلى هذا المال، لأن الشيخ رفعت غنى بكتاب الله ولا تجوز عليه الصدقة، وأعتذر عن عدم قبول هذه التبرعات، ومرضى بيد الله سبحانه وتعالى وهو القادر على شفائى، وإنى أشكر الأستاذ الصاوى وأشكر كل من أسهم فى هذه التبرعات على روحهم الطيبة وحبهم لى».
يضيف الحكيم: «بعد ١٠ أشهر رحل فى ٩ مايو- مثل هذا اليوم-١٩٥٠، اليوم نفسه الذى ولد فيه سنة 1882، الفارق فقط أنه ولد لحظة أذان الظهر ومات لحظة أذان الفجر».. وينقل «حنفى» عن الأهرام فى عددها 10 مايو 1950: «كان آخر مانطق به لسانه قبل أن يلقى وجه ربه: الحمد لله.. «وفى اليوم التالى ظهرت الصحف تتحدث عن الشيخ، فماذا قالت؟».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة