عنيت المؤسسات الإقليمية والدولية المسئولة عن مكافحة الفساد بالاهتمام بهذا الموضوع، حماية للوظيفة العامة من ناحية، وتحقيقًا للتقدم الاقتصادى من ناحية أخرى، وذلك فى سبيل الوصول لأقصى درجات الشفافية وتحقيق أمال الشعوب فى التنمية المستدامة.
وفى دراسة جديدة للمستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة، عن "الآليات الدستورية والقانونية فى مكافحة الفساد والتجربة المصرية نموذجًا " نعرض لها فى جزئين نتناول فيه تلخيص هذه الدراسة فى الجزء الأول منها.
أولا: نصوص الدستور الحاكمة ومكافحة الفساد والنظام الاقتصادى المصرى يقوم على الشفافية والحوكمة.
يقول الدكتور محمد خفاجى فى دراسته، إنه من ناحية أولى فإن المشرع الدستورى المصرى - بموجب المادة 218 من الدستور السارى - وضع التزاما على عاتق الدولة بمكافحة الفساد، كما ألزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها فى مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية من خلال عنصرين الأول ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة والثانى الحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية.
ويضيف الدكتور خفاجى ومن ناحية ثانية فإن المشرع الدستورى – بموجب المادة 27 من الدستور - جعل هدف النظام الاقتصادى تحقيق الرخاء فى البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية بما يكفل معدل النمو الحقيقى للاقتصاد القومى ورفع مستوى المعيشة وزيادة فرص العدل وتقليل معدلات البطالة والقضاء على الفقر، بل ألزم المشرع الدستورى النظام الاقتصادى بمعايير الشفافية والحوكمة، ودعم محاور التنافس وتشجيع الاستثمار، والنمو المتوازن جغرافياً وقطاعياً وبينياً، ومنع الممارسات الاحتكارية مع مراعاة الاتزان المالى والتجارى، وضبط آليات السوق، وكفالة الأنواع المختلفة للملكية، والتوازن بين مصالح الأطراف المختلفة بما يحفظ حقوق العاملين ويحمى المستهلك.
ويضيف من ناحية ثالثة، فإن المشرع الدستورى – بموجب المادة (28) من الدستور - جعلت الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية والمعلوماتية مقومات أساسية للاقتصاد الوطنى، وألزم الدولة بحمايتها، وزيادة تنافسيتها، وتوفير المناخ الجاذب للاستثمار، والعمل على زيادة الإنتاج، وتشجيع التصدير، وتنظيم الاستيراد، وتولى الدولة اهتماماً خاصاً بالمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر فى كافة المجالات، وتعمل على تنظيم القطاع غير الرسمى وتأهيله.
ولا ريب أن الحوكمة هى مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التى تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز فى الأداء والرقابة عليها للوصول إلى الأهداف المرجوة وكم من حقوق ضاعت فى عهود سابقة بسبب غياب المنهج العلمى للحوكمة كأسلوب للإدارة الرشيدة.
ثانياً: التجربة المصرية قدمت نموذجا لترشيد الانفاق العام فى التعاقدات الحكومية :
يشير خفاجى، أن مصر قدمت نموذجا من النزاهة والشفافية لمواكبة التطور العالمى فى مجال التعاقدات الحكومية، فقد كشف التطبيق العملى لقانون تنظيم المناقصات والمزايدات الصادر بالقانون رقم 89 لسنة 1998 عن مشكلات، ورغبة فى مواجهة ما طرأ من مستجدات اقتصادية واجتماعية، ومواكبة التطور العالمى فى مجال المشتريات الحكومية، بالإضافة إلى إحكام الرقابة وتحقيق الكفاءة الاقتصادية بحصول الدولة على قيمة حقيقية مقابل ما يتم إنفاقه من مال عام، وتجنب الصرف غير المبرر بما ليس له مردود إيجابى على أداء الجهات الخاضعة لأحكام القانون، وضبط ترشيد الإنفاق العام، ومكافحة الفساد، وبما يهدف إلى تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة وتبسيط الإجراءات، وتيسير العمل التنفيذى وتحقيق أهداف اللامركزية، فضلاً عن إرساء مبادئ الشفافية، وتكافؤ الفرص، وتوسيع قاعدة المنافسة وتدعيمها. على نحو ما جاء المذكرة الايضاحية بإصدار القانون رقم 182 لسنة 2018 بتنظيم التعاقدات التى تبرمها الجهات العامة.
ويضيف أنه حرصاً على تسهيل نفاذ مجتمع الأعمال للمعلومات المتعلقة بالمشتريات الحكومية من خلال تخطيط المشتريات، وتحديد الاحتياجات لسنة قادمة على أسس واقعية، والنشر على موقع بوابة المشتريات الحكومية، وإدارة العقود، وبصفة خاصة مرحلتى ما قبل الطرح وما بعد الترسية، وإعطاء أفضلية فى التعاقدات الحكومية للمنتج المحلى ذى الجودة، إلى جانب الحد من ظاهرة الاقتصاد غير الرسمى، والعمل على تنمية المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، ورفع كفاءة ومستوى أداء العاملين القائمين على تطبيق أحكام قانون تنظيم المناقصات والمزايدات، وتحقيقاً لذلك، صدر هذا القانون.
ثالثاً: القاضى الإدارى المصرى ساهم فى ضبط الأداء المالى فى العقود الإدارية
يتابع خفاجى، أن القاضى الإدارى المصرى أرسى النظرية العامة للعقود فى سائر موجباتها بل وتفوق على القاضى الإدارى الفرنسى فى بعض أساليب التعاقد أو نظريات التوازن المالى للعقد، وفكرة التوسع فى اختصاصات وسلطات قاضى العقد بمد اختصاصه بنظر الطعون فى القرارات الصادرة قبل التعاقد وهى القرارات المنفصلة عن العقد ومنها استبعاده من التقدم للمناقصة للغش، وذلك عملا بمبدأ الاقتصاد فى الإجراءات بدلا من اللجوء لقاضى الإلغاء ثم اللجوء من بعده لقاضى العقد، لإعمال أثر الإلغاء على العقد، فمن موجبات حسن سير العدالة فى مجال العقود الإدارية ألا تتجزأ أوصالها فتكون فى يد واحدة، وكذلك تعرض القاضى الإدارى لضمانات التعاقد فى المجال الحكومى، وأثر فكرة الغش فى التعاقدات الحكومية كسبب يحد من الفساد إعمالا لأحكام الدستور والقانون رقم 182 لسنة 2018 بشأن التعاقدات الحكومية.
رابعا: الأنظمة القانونية الحاكمة هى التى ترسم حدود دور الأجهزة الرقابية ودور الرقابة الإدارية أكثر فاعلية وديناميكية من كل وقت مضى:
يؤكد خفاجى، أن الرقابة الإدارية منذ عام 1964 بمقتضى القانون رقم 54 لسنة 1964 بإعادة تنظيم الرقابة الإدارية لها دور فاعل فى ضبط الاَداء فى المجتمع وذلك حتى فى ظل النصوص القانونية التى كانت تكبل من دورها الرائد فى المجتمع، ونظراً لأن الأنظمة القانونية الحاكمة هى التى ترسم حدود دور الأجهزة الرقابية التى تكافح الفساد فى ظل نظام سياسى معين، فإن دور الرقابة الإدارية بات أكثر فاعلية وديناميكية من كل وقت مضى، والسبب فى ذلك تغير الأنظمة القانونية الحاكمة لدور الرقابة الإدارية نحو منحها ما تستحقه من الصلاحيات والضمانات وأليات التنفيذ لأداء دورها.
ففى ظل القانون رقم 54 لسنة 1964 وإن كانت هيئة مستقلة تتبع رئيس المجلس التنفيذى إلا أنها أصبحت بمقتضى القانون رقم 207 لسنة 2017 المعدل هيئة رقابية مستقلة تتبع رئيس الجمهورية مباشرة ولها الشخصية الاعتبارية المستقلة فضلاً عن تمتعها بالاستقلال الفنى والمالى والإدارى، وتقوم فلسفة العمل بها على أهداف محددة تتمثل فى منع الفساد مكافحته بكافة صوره، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للوقاية منه، ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة وحفاظاً على المال العام بل وغيره من الأموال المملوكة للدولة، وقد أجاز لها القانون المعدل بحسب ما تراه بموجب سلطتها التقديرية أن تجرى التحريات فيما يتعلق بالجهات المدنية وإذا أسفرت التحريات عن أمور تستوجب التحقيق تُحال الأوراق منها إلى النيابة الإدارية أو النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة بحسب الأحوال، وعلى الجهات الأخيرة افادتها بما ينتهى إليه التحقيق، وقد تطورت آليات العمل تطوراً كبيراً يضاهى أعتى الدول المتقدمة على نحو من الاستقلال بفضل رجالها الأوفياء من ناحية، واستخدام أحدث التقنيات الفنية المتاخمة للعمل الرقابى من ناحية أخرى، بعد أن كان لها قديماً الاستعانة برجال الشرطة وغيرهم من رجال الضبطية القضائية وذوى الخبرة.
خامسا: النموذج الرقابى الحالى يتميز بأسلوب الحداثة البعيد عن التأطير والتنميط والتقليد واستنساخ تجارب الغير:
يستكمل خفاجى، أنه استلهاماً من الدعوة السيادية لحشد الطاقات المؤسسية والمجتمعية للحد من ظاهرة التطرف التى اُعلنت من خلال اجتماع المجلس القومى لمكافحة الإرهاب والتطرف والتى دعت إلى بناء استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الإرهاب. وانطلاقاً من القرار الجمهورى رقم 355 لسنة 2017 بإنشاء المجلس القومى لمواجهة الإرهاب والتطرف، والذى يهدف إلى حشد الطاقات المؤسسية والمجتمعية للحد من مسببات الإرهاب ومعالجة آثاره، يختص المجلس بإقرار استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الإرهاب والتطرف داخلياً وخارجياً ومتابعة تنفيذ إجراءات التحفظ على أموال الكيانات الإرهابية والإرهابيين ورصد التحويلات المالية للعناصر والتنظيمات الإرهابية، تجفيفاً لمصادر تمويل التطرف والإرهاب.
ويضيف الدكتور خفاجى يقيناً صادقاً من قناعتى كرجل فقه وقانون وقضاء بمصداقية هيئة الرقابة الإدارية وقدرتها على تأدية دوراً مؤسسياً فاعلاً يتفق مع تاريخها وقدرة رجالها، ويضاعف من قناعتى بعداً أخر هو أن يكون التصدى بأسلوب يتميز بالحداثة بعيداً عن التأطير والتنميط والتقليد واستنساخ تجارب الغير لبناء منظومة فاعلة ديناميكية لا يتجاسر على التصدى لها إلا من هو مؤهل لتلك المهنة المقدسة، وأتصور أن هناك من هو مؤهل فى مواقع المسئولية لتحقيق هذه الاَلية بمنظومة جديدة غير مسبوقة ولا تتصادم مع رسالات التى تقوم عليها أجهزة أخرى.
سادسا: ارتباط عضوى بين الرقابة الإدارية والمجلس القومى لمكافحة الإرهاب والتطرف والتحرك الاستراتيجى لمباغتة منابع الإرهاب يقضى على عصب النمو السرطانى لهذه الخلايا
وأوضح خفاجى، انه من العوامل التى تؤدى لنجاح تلك المنظومة قبل أن تبدأ هو الارتباط العضوى بين رئاسة هيئة الرقابة الإدارية ووجودها بقوة القانون ضمن تشكيل المجلس القومى لمكافحة الإرهاب والتطرف يجعل المسئولين عنها أمام نداء وطنى جديد لا يملكون إلا تلبيته، وأن يبدأ برنامجاً وطنياً متميزاً لتنشيط التحرك الاستراتيجى ومباغتة منابع الإرهاب من الناحية المالية يقضى على عصب النمو السرطانى لهذه الخلايا، وهذا الدور فى بسط يد الرقابة الإدارية على قمع أموال الإرهابيين يتطلب قراءة جديدة واعية مستنيرة لها رؤيتها الفقهية فى تفسير قانون هيئة الرقابة الإدارية الذى أوكل لتلك الهيئة مكافحة الفساد بكافة أنواعه ووفقاً للمادة (218) من الدستور وفى ضوء عضوية الهيئة ضمن تشكيل المجلس القومى لمكافحة الإرهاب والتطرف وذلك تفسيراً حديثاً يلبى احتياجات المجتمع العاجلة المطلوبة من تلك الهيئة.
ويضيف إذا كانت هيئة الرقابة الإدارية تقوم بدور ملموس فى مواجهة حالات الضعف الإنسانى فى كل موقع مهما علا شأن صاحبه فى السلم الوظيفى أو السياسى فى أى درجة من درجات المسئولية، كما أنها ارتبطت بمشاكل الناس اليومية فى العلاج والتعليم والاحتياجات الاستهلاكية والمستشفيات وأخيراً المجازر كل هذا توجه اقتصادى سوف يتوج إذا وفرنا للمواطن ما يسعى إليه أولاً من الأمن والأمان من السوس الذى ينخر فى الهيكل الاقتصادى والبنية الأساسية ونزيف المليارات من اقتصادياته التى توجه إلى ترويعه وإقلاق مضاجعه وهى فى صلب رسالته الوطنية المنشودة.
سابعاً: الاكتشاف المبكر لأموال الإرهابيين هو خير وقاية للمجتمعات الافريقية من التحرك النشط
وقال خفاجى، إن الاكتشاف المبكر لأموال الإرهابيين هو خير وقاية للمجتمعات الافريقية من تداعيات أى تحرك نشط، وفى مصر فإن دور هيئة الرقابة الإدارية بهذا الصدد يتكامل ويتساند ولا يتصادم بل يتعاظم حينما تخرج الأهرامات الثلاثة الحارسة وهى السياسى والاقتصادى الاجتماعى والأمنى وهذا الطريق هو الذى يؤدى إلى اجتثاث خلايا الإرهاب النائمة والنشطة لأن المال هو العنصر الفاعل للتحرك الايجابى لتلك السلبيات، ولا ريب أن الاعلان عن هذا الدور يصيب جماعات التطرف بالرعب لثقة الشعب فى نزاهة ووطنية عمل تلك الهيئة.
ثامنا: كشف عمليات غسيل الأموال والتمويل الخارجى المقنع والشركات متعددة الجنسيات التى تقوم بعمل سياسى تحت ساتر اقتصادى يوقف تغذية الإرهاب
وأشار خفاجى أن كشف عمليات غسيل الأموال والتمويل الخارجى المقنع والشركات متعددة الجنسيات التى تقوم بعمل سياسى تحت ساتر اقتصادى يوقف التدفق المالى لهم ويوقف تغذية الإرهاب، لذا فإن دور هيئة الرقابة الإدارية فى الفحص والتمحيص والتحرى والضبط هو الذى سوف يكشف النقاب عن عمليات غسيل الأموال والتلاعب فى العملات والتمويل الخارجى المقنع والشركات الوهمية والشركات متعددة الجنسيات التى تقوم بعمل سياسى تحت ساتر اقتصادى. وهو ما يؤدى إلى الاسهام المبكر فى ضبط منظومة التدفق المالى للجماعات الإرهابية عن طريق ما يعرض من نماذج فى ساحة القضاء من خلال فحص رجالها الأعم والأشمل.
تاسعا: الرقابة الإدارية ومسئولية حراسة مسيرة الاًداء الرشيد :
وأخيراً يقول الدكتور خفاجى أن الدور الفاعل المسئول لهيئة الرقابة الإدارية فى تحمل أمانة حراسة مسيرة الشرف والأداء الرشيد فى آلية العمل الوطنى بات أمراً لازماً فى تطهير المجتمع من ظواهر الفساد ومظاهره التى تنخر فى جسد الأمة، خاصة فى هذه المرحلة التى تعتبر نقطة تحول تتجه فيها بكل الثقة والأمل نحو بناء المجتمع الرشيد ترفرف عليه أعلام العدالة والمساواة المتكافئة تحت مظلة القانون بحيث يشعر الكافة أنه لا يوجد أحد فوق القانون مهما كان موقعه، لكى نعيد إلى المسئولية العامة هيبتها وللدولة مكانتها ولشعارات سيادة القانون مصداقيتها ولشرف القرارات الرسمية قدسيتها.
وغدا نعرض للجزء الثانى والأخير من هذه الدراسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة