كل الطرق تؤدى إلى «عالم جديد يتشكل» وتحولات فى شكل علاقات الدول وموازين القوى، والصراعات التى تتخذ أشكالا تجارية واقتصادية وتكنولوجية، وهو عالم يختلف عن التسعينيات التى كانت قمة التبشير بالتحولات، وأيضا عن عالم بداية الألفية، عندما كان الحديث عن قرن أمريكى ينتهى عنده التاريخ بعقل وقلب رأسمالى غربى، ونظام عالمى بصياغة أمريكية، مثلما أعلن فرانسيس فوكوياما.
لكن هذا العالم استمر فى التغير، وتواصلت عمليات التفاعل بشكل متوازٍ ومتقاطع، لتنتج شكلا جديدا تحكمه التكنولوجيا، وتتحكم فيه القدرة على الإنتاج والتسويق الواسع والمنافسة بشكل عالمى.
وقد ظلت الولايات المتحدة هى التى تضع القواعد وتدافع عن المنافسة والتدفق التجارى والسلعى والتكنولوجى، وتحرير التجارة العالمية فى سياق عولمة تحفر طريقها، وحتى فى مجال المعلومات كانت الولايات المتحدة الأكثر تحررا فيما يتعلق بحرية انتقال المعلومات والخبرات والباحثين والعقول.
لكن كل هذا يتغير اليوم، وبعد أن كانت الولايات المتحدة محل شكوى دول العالم، فقد اتهمت من قبل الروس بالتجسس والتلاعب فى مواقع التواصل وتوجيه الرأى العام الأمريكى، وامتدت الاتهامات بالتجسس لتشمل الصين، وحذرت تقارير غربية وأمريكية من تدخلات صينية فى السياسات الغربية، وتجنيد عملاء لمصلحتها، وطبعا نفت الحكومة الصينية أى محاولات للتأثير على سياسات الدول الأخرى أو مراقبة مواطنيها الذين يعيشون أو يدرسون فى الخارج.
وسخر الباحث الروسى إيجور دينيسوف من اتهامات الغرب للصين، قائلا: «إن البحث عن جواسيس صينيين يشبه على نحو متزايد البحث عن قراصنة روس، وطبيعى أن الصين، مثل أى دولة كبرى أخرى، تقوم بأنشطة استخباراتية»، ومع هذا لم تتوقف أوروبا وأمريكا عن اتهام الصين بسرقة المعلومات الصناعية.
ومؤخرًا، حسبما ذكرته صحيفة وول ستريت جورنال، تسعى الولايات المتحدة لمواجهة مساعى الصين وغيرها من الدول الأجنبية لتجنيد العلماء الذين يعملون لدى الهيئات الفيدرالية الأمريكية، ونقلت عن مسؤولين أمريكيين أن وزارة الطاقة الأمريكية حظرت على باحثيها الانضمام إلى برامج توظيف الموهوبين الصينية، بعد الكشف عن تجنيد أفراد من خلال برامج لجماعات على صلة بجهات عسكرية أجنبية، إذ يتم جذبهم بملايين الدولارات، وهى محاولة من جانب إدارة الرئيس دونالد ترامب، لتفادى ما يعتبره سرقة الصين الواسعة النطاق للعلوم والتكنولوجيا الأمريكية، وسط استمرار التوترات بين واشنطن وبكين على صعيد التجارة والملكية الفكرية.
وهذه الاتهامات الأمريكية جديدة، فقد ظلت الولايات المتحدة ولاتزال مركز جذب للعلماء والكفاءات فى العالم، ونجحت الولايات المتحدة دائما فى تقديم إغراءات وبرامج للعلماء والباحثين تشجعهم على الهجرة إلى أمريكا، واتهمت الولايات المتحدة بأنها تستنزف عقول دول العالم، خاصة العالم الثالث، وأيضا كانت تراهن على المنشقين من المعسكر السوفيتى والأوروبى الشرقى.
وكثيرا ما كان الأمريكيون يسخرون من اتهامات المعسكر السوفيتى بأنها تستقطب العلماء والباحثين، واعتبروا مخاوف الآخرين نوعا من الإغراق فى نظريات مؤامرة غير موجودة.
ومعروف أن الولايات المتحدة قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية استقطبت العلماء الألمان الذين ساهموا فى إنتاج القنبلة النووية قبل أن يصل إليها هتلر، وساهم ألبرت أينشتاين والعلماء الألمان فى بناء القدرات النووية الأمريكية.
وفى عام 2006 تم الكشف للمرة الأولى عن وثائق عن تشكيل ما سمى «القوة تى» وكانت مهمتها نقل العلماء الألمان إلى أوروبا وأمريكا من ألمانيا، وأشارت الوثائق الحكومیة البریطانیة المفرج عنها إلى أن تلك القوة أمنت ونقلت أكثر من 1500عالم ألمانى إلى بریطانیا والولایات المتحدة منذ عام 1945 والأعوام التى تلتها.
الولايات المتحدة التى عرفت بأنها إمبراطورية بناها المهاجرون، ترفع اليوم أصابع الخوف من الاختراق والاستقطاب الصينى للعلماء والباحثين، ضمن حرب تكنولوجية وتجارية تعيد تشكيل عالم الجيل الخامس للتكنولوجيا.