غربت شمس يوم 11 يونيو عام 1882، فهدأت الفتنة وسكن الاضطراب فى الإسكندرية، وذلك بعد ساعات من تفجر الموقف بين المصريين والأجانب بسبب مشاجرة بين مالطى ومصرى، حسبما يذكر سليم النقاش فى الجزء الخامس من كتابه «مصر للمصريين».. «راجع-ذات يوم 11 يونيو 2019».
يقدم «النقاش» صورة درامية عما حدث فى الإسكندرية، مساء يوم 11 يونيو، ويوم 12 منه: «انفض الليل ولم يحدث فيه شىء يذكر، غير أن الخوف كان ملء القلوب، وقد تمكن منها حتى إنه لم يستطع أحد من سكان الإسكندرية إغماض جفنيه فى ذلك الليل، وخلت الشوارع من المارة شرفات «بالكونات» المنازل ونوافذ البيوت لم تخل دقيقة من مشرف مستكشف يحدق بصره فى الطريق كأنه يترقب وقوع أمر أو حادث مفاجئ.. وكان كل امرئ مهتما بشأنه، فهذا يندب فقيده وذاك ينتظر غائبا لم يستطع الرجوع إلى منزله، وبعض يجتهدون باتخاذ أسباب الاحتياط والوقاية، وآخرون يتأهبون للدفاع وقوم يعدون ما يحتاجون إليه للمهاجرة والجلاء فى صباح اليوم المقبل».
يذكر «النقاش»، أنه فى يوم الاثنين 12 يونيو، مثل هذا اليوم 1882، كثر عدد النازحين الهاربين حتى خُيل للناس أنه لم يبق فى المدينة أحد من الأجانب، وبلغت أجرة العربة عشرين فرنكا، وأجرة عربة النقل «كارو»، وأجرة الزورق الواحد 40 أو50 فرنكا، ومن الناس من ألجأتهم الضرورة إلى رهن ما عندهم أو بيعه بأبخس الأثمان أو الاستدانة بفائدة فادحة، ومنهم من رهن أمتعة بيته وما لديه من الحلى والجواهر إلى غير ذلك مما يصعب تصديقه ولا سيما عن سكان مدينة الإسكندرية وعرفوا بسعة الثروة واليسار.. وما بقى فى الميناء سفينة إلا امتلأت بالمهاجرين حتى إن السفن الشراعية استؤجرت بـ«مبالغ» فاحشة، فكان الناس ينزلون إليها راغبين فى السفر عليها».
يواصل النقاش سرد مشاهداته: «كان الناس بين خوفين أو بين شرين أحلاهما أمر من الصبر: الأول أن تطلق الدوارع الإنجليزية والفرنسية من البحر مدافعها على المدينة وحصونها، وأن تحصل فتنة ما فى البلد بين المسلمين والنصارى، ومن أجل ذلك زاد عدد الراحلين حتى بلغ فى ذلك اليوم وحده أكثر من عشرة آلاف مهاجر، ونزلوا إلى البحر متفرقين فى السفن البخارية والشراعية، ولم تعارض إدارة الجمارك أحدا فيما ينزله إلى البحر من أمتعة وغيرها، ولم يتعرض مأمورها لفتح الصناديق، ولم تسأل «الإدارة» أحدا عن تذكرة مروره أو رقة إقامته، أو غير ذلك مما يتعلق بها».
يضيف النقاش: «استمرت الحال على هذا المنوال بضعة أيام حتى كاد القطر المصرى بأجمعه يخلو من كل أجنبى، وقد عدل بعضهم عدد المهاجرين فى تلك المدة فقالوا إنه بلغ زهاء مائة وخمسين ألفا.. وقفلت جميع المخازن ودكاكين الباعة كباعة الخبز وسائر المأكولات، وقفلت أيضا الأفران والمعامل وبقى أكثرها مغلقا أياما حتى كاد يقضى على الناس من شدة الضيق، وبطلت المعاملات ووقفت حركة الأخذ والعطاء ولم يبق فى البلد شغل إلا للحامرة «أصحاب الحمير الأجرة»، وأرباب العربات وعجلات النقل وأصحاب الصنادل والزوارق وإدارات الوابور ومصلحة السكك الحديدية».
يذكر النقاش، أن قناصل الدول الأجنبية شكلوا لجنة مؤلفة من أطباء مختلفى الجنسية، وعهدوا إليها أن تحصى عدد القتلى والجرحى إحصاء رسميا، فطاف أعضاء اللجنة المستشفيات وتفقدوها.. ووفقا لعبد الرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»، فإن الحكومة قررت إيفاد لجنة مساء يوم 11 يونيو 1882، إلى الإسكندرية للنظر فى تلك الحادثة، ويضيف الرافعى: «عقد الخديو اجتماعًا فى سراى عابدين صبيحة يوم الاثنين 12 يونيو، حضره محمد شريف باشا، ودرويش باشا المندوب العثمانى، وقناصل فرنسا وإنجلترا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا الذين جاءوا يطلبون تأمين رعاياهم على أرواحهم وأموالهم، ودعا عرابى إلى الاجتماع وخوطب فى الأمر، فأجاب بالقبول، وزاد أن تعهد للمجتمعين بمنع ما من شأنه إثارة الخواطر، كالاجتماعات العامة، وانعقاد الجمعيات، وإلقاء الخطب، ونشر المقالات المهيجة».
أما عن اجتماع الإسكندرية صباح 12 يونيو، بحضور المحافظ ولجنة القاهرة وقناصل الدول الأوروبية، فيذكر «الرافعى» أن المجتمعين تشاوروا فى اتخاذ التدابير الفعالة لمنع وقوع الفتن، فتعهد كبار الضباط بالمحافظة على النظام، بشرط ألا يتدخل الأسطولان «الإنجليزى والفرنسى» فى الأمر، ووقع القناصل جميعًا بيانًا أعلنوا فيه ثقتهم بالجيش، ونصحوا فيه رعاياهم بالتزام الهدوء، ونهض يعقوب باشا وكيل وزارة الحربية، وخاطب الضباط قائلًا: «يجب عليكم أن تحافظوا على القناصل ورعاياهم ما دام فى عروقكم قطرة دم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة