يقول المَثَل المصرى إن «التُقل صنعة»، وحتى تُثبت حضورك وأهميّتك عليك أن تكون مُتمكّنًا فيها، لكن يبدو أن المُغنية ميريام فارس تفتقد احترافيّة التدلُّل، بقدر افتقادها أمورًا عديدة فى مهنتها، استبدلت بها تفاصيل خفيفة، لم تُعوِّضها للأسف عن فقر «الصنعة»، ولم تضمن لها إجادة «التُقل».
تورَّطت «ميريام» فى إثارة الجمهور المصرى، بعدما قالت خلال مؤتمر صحفى على هامش مشاركتها بمهرجان موازين المغربى، السبت الماضى، إن حفلاتها تقلَّصت فى القاهرة بسبب ارتفاع أجرها، ما جعلها «تقيلة» على مصر. لم يكن التصريح مُوفّقًا، ولم يكن الاعتذار ذكيًّا، وبين الأمرين كانت الأزمة الأكبر لدى «ميريام»، سواء فيما يخصّ تقديرها الكارثى لنفسها، أو عجزها المُزرى عن مُخاطبة الرأى العام بعد سنوات من الوجود والعمل!
الشابة التى تجاوزت منتصف عقدها الرابع بسنة واحدةٍ، وبدأت حياتها راقصةً، قبل أن تتّجه للغناء بألبومها الأول «أنا والشوق» 2003، بدت مُرتبكةً خلال المؤتمر، إلى حدِّ أنها لم تكن تجيب عن الأسئلة عرضًا للأخبار وإشباعًا لنَهَم المُحبّين، وإنّما كانت أقرب إلى سجين فى قفص، يُقدّم تبريراتٍ انفعاليّة مُفكّكة، لدفع اتّهام يشعر وحده أنه يصعب انتزاعه من أرواح المُستمعين، فيتورّط فى تأكيده!
كان السؤال الذى وُضع أمامها عن قِلّة حفلاتها بمصر، فردَّت الشابة، التى يبدو أنها لا تستوعب حجمها فى الساحة، قائلة إن ذلك حدث بعد توتّرات 2011، وكان يُمكن أن تتوقّف هُنا، وتُعلِّق الأمر على الظرف السياسى المصرى والعربى وقتها، لكنّها تمادت بادعاء أن السبب ارتفاع أجرها، وأنها أصبحت «ثقيلة» ومُكلفة بما يُعجِز السوق عن استيعابها.
حديث «ميريام» أثار غضبًا عارمًا، لم يتوقّف على الجمهور ومُستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى، وإنما امتدّ إلى الساحة الفنية، التى انبرى عدد من نُجومها للردِّ على التصريحات بحِدّةٍ وغيظ، وبين الشدِّ والجذب، وما انطوى عليه حديثها من افتقاد للذوق والأدب، أصدرت المُغنّية بيان اعتذارٍ وتوضيح، لم يكن أقل سُوءًا من التجاوز نفسه!
غاب عن «ميريام» التوفيق فى الحديث، وفى التراجع أيضًا، فلم يكن ذكيًّا أن تهرب إلى الأمام عبر التلاعب باللغة وإلقاء اللوم على اللهجة اللبنانية، واختلاق تفسير سطحى للتصريحات المُوثّقة صوتًا وصورة. وبعيدًا عن أن مصر الكبيرة لا يُمكن أن تشغلها تلك التفاهات، فإن الصغيرة ميريام «عُمرًا وعقلاً وتجربة»، تحتاج بشدّة، وعلى وجه السرعة، للانشغال بالأزمة واستخلاص دروسها.
رُبّما لا تعرف المٌغنّية التجاريّة أنّها سلعةٌ يُمكن أن تروج حينًا ويضربها الكساد أحيانًا، وأن سوق الحفلات تقودها موازين العرض والطلب، ويُمكن أن يُحجم المُنظّمون عن تشغيلها، لأنها لم تعُد مطلوبة وصارت بضاعةً كاسدة تفتقد المُشترين، حتى تلك النقطة لا غضاضة، لكن تنشأ المُشكلة عندما تعجز ذهنية «ميريام» عن استيعاب المُعادلة، فتُعلِّق كسادها فى رقاب الآخرين، وتختلق أسبابًا لتبرير فشلها فى الإبقاء على مُستهلكيها، أو البقاء فى بُقعة الضوء والرواج.
قبل شهور انقلب المجتمع رأسًا على عقب، جمهورًا وفنّانين، بعد تصريحات للمطربة شيرين، المصرية عظيمة الموهبة، رأوا أن فيها مساسًا بمصر. لم تقرأ «ميريام» المشهد جيّدًا، لتعرف أن المصريين لا يتسامحون مع إهانة بلدهم، حتى لو كانت عفويّة وعلى لسان إحدى بناتها، وبالضرورة لن يتسامحوا معها أو غيرها لو تجاوزوا الخطّ الأحمر، ومن ثمّ فلو رأت أنها تحتاج لتبرير كسادها، كان عليها البحث عن حججٍ أُخرى تُكسبها وِدّ الأشقاء فى المغرب، ليتعاقدوا معها ويُخرجوها من دولاب المُنطفئين، دون أن تخسر حياد المصريين واستقبالهم العادى لها، فحتى لو كانت نجوميتها تبدَّدت هُنا، فذلك أهون كثيرًا من أن يراها أكبر جمهور عربى عَدوًّا، فتتحوَّل إلى صفر كبير فى نظر رُبع الساحة العربية.
بعيدًا عن أن انطلاقة «ميريام» بدأت مع ألبومها الثانى «نادينى» الذى غنّت فيه باللهجة المصرية، وتأكَّدت بإنتاج قناة القاهرة والناس فوازيرها الرمضانية خلال 2009، وانتقالها إلى شركة «ميلودى»، وتعزيز المُغازلة بأغنيات مصرية فى ثالث ألبوماتها، ثم مشاركتها فى مسلسل «اتّهام»، وترويجها عبر عشرات الحفلات المصرية، فإن الأزمة الحقيقية ليست فى كل ذلك، ولكنها فى تَعالِى صاحبة الألبومات الخمسة، والمشروع الغنائى الساذج، الذى يستند إلى الرقص وإعادة إنتاج نموذج «شاكيرا» بنكهةٍ عربية. لا تعى المُغنية اللبنانية أنها نصف مشروع، وأن الجمهور كان يتلقّاها كصورة عربية لأصلٍ غربى، تُراهن على الجسد أكثر من الصوت، وتُقدِّم مادّةً بصريّة لا غنائيّة، وحينما استهلكوا السلعة وتشبّعوا زهدوها، فانتهى عُمرها الافتراضى وانتهت إلى الظلّ!
فيما يخصّ تقديرات النجومية وفق الأسعار، فإن «ميريام» ليست الأعلى أَجرًا. كانت 20 ألف دولار وبالغت فى زيادتها، لكنها حتى الآن لم تتجاوز 50 ألفًا، بينما تحصل نانسى عجرم على 60، وأنغام 70، وإليسا وشيرين 80، وعمرو دياب 120، وتقاضى العالمى «يانّى» قُرابة مليون دولار فى 2015، ويعود أواخر يوليو المقبل بمُقابل أعلى، ما يعنى أن حفليه يكفيان لإحضار «ميريام» 40 مرّة، ومن ثمّ فلا جدارة للحديث عن ارتفاع سعرها، وإنّما الأَوقع أن نتحدّث عن انخفاض قيمتها، أو كساد بضاعتها، أو زُهد المُستهلكين لها.
البلد الذى لا تنقطع فيه حفلات عمرو دياب ومحمد منير وإليسا وأنغام وشيرين وأصالة ونانسى، لا يُمكن بالعقل والمنطق أن تكون ميريام فارس «تقيلة» فيه أو عليه، فأجرها لا يتجاوز تكلفة تجهيزات المسرح ونظام الصوت فى حفل أحد نجوم الصفّ الأوّل، وإذا كانت أمور الفن لا تخلو من بعض الدلال، وتصريحات «الشو» الساعية للتسويق أكثر من إثبات الجدارة والتأثير، فإنّه يتعيّن أن تعى وهى تتدلَّل أن «التُّقل» صَنعة والكساد خيبة، وأن كلمة «ثقيلة» فى مصر قد تعنى ثِقَل الظلّ وانعدام القبول، ورُبّما «يتثاقل» شخص حتى يعجز الهواء عن حمله، فيغرق فى شِبر ماء. ولعلّ الأفضل لها إذا كانت بضاعةً غير مرغوبةٍ أن تقتصد فى دلالها، فقد ترضى السوق المصرية عنها قريبًا، فتتعاقد معها، وتُعيد إليها بريقها المفقود، الذى صنعته حفلات مصر، وعجزت موهبتها المحدودة عن الحفاظ عليه!