حالة من الجدل هيمنت على المجتمع الدولى فى الأيام الماضية، مع تواتر الحديث عن تورط مسئولين غربيين فى جريمة "العنف الأسرى" والتى أدت إلى الإطاحة بالقائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكى، باتريك شاناهان، قبل أيام قليلة، من تنصيبه رسميا فى المنصب، وذلك على خلفية اتهامه من قبل زوجته بضربها، قبل 9 سنوات، وذلك على الرغم من أن التحقيقات أثبتت براءته، إلا أن إحياء القضية من جديد، فى هذا التوقيت يحمل مغزى سياسى، ربما لا يقتصر فى مداه استهداف المسئول الأمريكى، ولكنه يمتد إلى الرئيس دونالد ترامب، باعتباره من رشحه للمنصب، بسبب العديد من الاعتبارات، وعلى رأسها التوافق بينهما فى العديد من القضايا.
ولعل التزامن بين الضجة الكبيرة التى أثيرت حول شاناهان، والاتهامات المشابهة التى لاحقت وزير الخارجية البريطانى السابق بوريس جونسون، والذى يعد المرشح الأقرب لمنصب رئيس الوزراء فى بريطانيا خلفا لتيريزا ماى على خلفية مشاجرة اندلعت بينه وبين صديقته فى العاصمة البريطانية لندن، يثير الشكوك حول ما يمكننا تسميته بـ"الاستخدام السياسى" للمبادئ والمفاهيم الحقوقية، خاصة وأن جونسون تمكن بالفعل من الحصول على أعلى الأصوات فى الجولتين الأولين من التصويت داخل حزب المحافظين، فى الأيام الماضية، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا للكيفية التى بات يستخدم بها مصطلح "حقوق الإنسان" لتحقيق المصالح والأهداف السياسية
ويمثل استخدام الاتهامات الحقوقية كضغط سياسى ليس بالأمر الجديد تماما، خاصة من قبل الليبراليين ودعاة الديمقراطية، فى الدول الغربية، حيث كانت وسيلتهم لممارسة الضغوط على خصومهم، لسنوات طويلة، من أجل التدخل فى شئونهم، بل وكانت الذريعة التى طالما استخدموها للإطاحة بالأنظمة المارقة، سواء بالتلويح بورقة التدخل العسكرى أو تأجيج الغضب الداخلى باستخدام أذرعهم "الحقوقية" لتشجيع الفوضى وتحويل البلدان إلى خانة الحرب الأهلية.
استخدام الورقة الحقوقية لتحقيق طموحات "الليبراليين" الغربيين بدت واضحة فى الشرق الأوسط، فى ظل إدارة أوباما، والتى قدمت دعما لمن أسمتهم "نشطاء"، ولمنظماتهم، وهو ما أدى فى نهاية المطاف إلى دخول العديد من دول المنطقة فى دائرة الصراعات الدموية، وصعود العديد من التنظيمات الإرهابية، والتى باتت تمثل تهديدا صريحا لكل دول العالم، بينما امتدت فى الوقت نفسه إلى عدد من الدول الغربية الأخرى، وعلى رأسها أوكرانيا، حيث استخدمت القوى الغربية نفس السلاح للإطاحة بالرئيس السابق فيكتور يانكوفيتش، والمعروف بموالاته لروسيا، لتؤدى إلى انقسام الأراضى الأوكرانية، بعدما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم.
إلا أن الجانب الجديد فى لعبة الليبراليين هو استخدام نفس السلاح فى مواجهة خصومهم السياسيين داخل دولهم، وذلك فى إطار خطة مشابهة لتلك التى تبنوها فى مواجهة "المارقين" الدوليين، وهو ما بدا واضحا فى حالتى شاناهان وجونسون، خاصة وأن كلاهما يمثلان نفس التيار المحافظ، والذى يتبنى موقفا مناوئا للمؤسسات، والهجرة، والاتحاد الأوروبى، وبالتالى كانت إثارة قضايا العنف المنزلى بصددهما يحمل أهدافا سياسية، بعيدا عن الجانب الإنسانى.
ولعل المتابع لقضية شاناهان تحديدا، ربما يلاحظ أن المستهدف الرئيسى من إثارة تلك القضية، والتى برأته منها الشرطة قبل ما يقرب من عقد من الزمان، هو الرئيس دونالد ترامب، باعتباره المسئول عن ترشيحه لمنصب سيد البنتاجون الجديد، خاصة وأن الكشف عنها جاء من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالى، والذى يتبنى موقفا مناوئا للبيت الأبيض، فى ظل المواقف المتعارضة بينهما تجاه العديد من القضايا، خاصة فيما يتعلق بمسألة التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتى أجريت فى عام 2016، والتى فاز بها ترامب على حساب منافسته هيلارى كلينتون، وهو ما أدى إلى العديد من التصريحات العدائية المتبادلة بين الجانبين.
الأمر ربما لا يبدو مختلفا بالنسبة لجونسون، والذى يتبنى مواقف شبيهة تجاه مختلف القضايا الدولية، وهو الأمر الذى دفع الرئيس ترامب إلى الإعراب عن تأييده مرات عدة، كان أخرها قبل زيارته الأخيرة التى أجراها للعاصمة البريطانية لندن فى وقت سابق من هذا الشهر، مما أثار انتقادات عدة فى الداخل البريطانى، جراء مخاوف كبيرة من احتمالات "ميلاد ترامب جديد" فى بريطانيا.
ويمثل موقف الرئيس الأمريكى تجاه العديد من المسائل الحقوقية، عبر تغيير بعض المفاهيم التى سعى الليبراليون لترسيخها فى أذهان شعوبهم لسنوات طويلة، انعكاسا صريحا لإدراكه للكيفية التى يتاجر بها الساسة بالمبادئ الحقوقية لتحقيق أهدافهم، هو ما بدا واضحا فى خطاباته الداعمة للحرب التى تخوضها العديد من الدول ضد الإرهاب، معتبرا أن التعامل الصارم مع التنظيمات الإرهابية، والتى حظيت بدعما صريحا تارة، وضمنيا تارة أخرى، من قبل القوى الدولية الكبرى لسنوات طويلة، لا يدخل فى إطار "الانتهاكات" لحقوق الإنسان.
الموقف الذى تبناه ترامب تجاه المبادئ الحقوقية لم يقتصر على التعامل مع الإرهاب، وإنما امتد كذلك إلى العديد من الجرائم الأخرى، وأبرزها مسألة العنف الأسرى، حيث أن وزارة العدل أصدرت تعديلا جديدا لتعريف الجريمة من الناحية القانونية لتقتصر على مسألة الاعتداء بالضرب على المرأة، بينما لا يدخل فى إطارها محاولات الإيذاء النفسى أو العزل أو سوء المعاملة الاقتصادية، ربما ليغلق الطريق أمام محاولات التشويه التى يسعى معارضيه إلى استخدامها بصدده وتجاه إدارته.