تمرحُ الفئران فى أجواء الفوضى، وتزدهر الألاعيب الصغيرة فى مناخ التوتُّر، فتجد كلّ رُؤيةٍ موطئ قدمٍ فى المشهد، حتى لو بلغت من السيولة أُفقًا يحجب النظر. ورغم تنامى التوتُّرات الإقليمية بقدرٍ يستوعب حشدًا من التصوّرات المٌتصادمة، تظلّ وضعيّة تركيا فى المشهد مُثيرةً لحيِّزٍ لا يُستهان به من التحفُّظ، وعلامات الاستفهام والتعجُّب!
بشكلٍ عام، يُمكن القول إنّ كثيرًا من الحقائق تغيب تحت ضغط الكيد والتلوين، وهو مسار سلكته تركيا، ودعمتها فيه قطر، بدءًا من تمويل ميليشيات الحرب الأهلية السورية، مُرورًا بممارساتهما فى ليبيا واليمن والعراق، ودعمهما جماعة الإخوان الإرهابية عقب إطاحتها من حُكم مصر فى 2013، وصولاً إلى مقاطعة الرباعى العربى للدوحة قبل سنتين.
تلك السلسلة من تجاوز مصالح المنطقة، قادت إلى مواجهات خَشنةٍ ومُضمَرة، طوّرها «أردوغان» إلى حربٍ مُباشرة، عبر توجيه أذرعه لاستهداف الأنظمة والمؤسَّسات، واحتضان قادة الإرهاب، وتأمين مساراتٍ حُدوديّة لعبورهم. وفى ظلّ المناخ المُحتدم، كان طبيعيًّا أن تسعى أنقرة لتطوير الصراع، وتوظيف أوراق الطاولة كلها لتقويض الإقليم وقواه النشطة، وتلك الغاية جعلت حادثة قُنصلية السعودية بإسطنبول ورقةً ذهبيّة.
رُبَّما لم تشهد قضيةٌ خلال العقد الأخير، ما شهده مقتل جمال خاشقجى من مُزايدةٍ وتوظيف سياسىّ، قادا إلى استباق المسارات الطبيعية للفحص والتحقُّق، وخلط المُتاح يَقينًا بالمأمول طَمعًا، فنشطت الماكينات التركيّة لتكييف القضيّة بما يتواءم مع رغباتها، وتحويلها سلاحًا ووقودًا للمعركة، وسارت خلفها شبكة الجزيرة، وبعض المنصَّات التابعة لها بالتمويل، أو التعاقدات المرحلية والمساحات المُستأجَرة والعاملين مدفوعى الأجر.
منذ اللحظة الأولى للحادث، وإفصاح السعودية عن جانبٍ من المعلومات التى كشفتها التحقيقات المبدئيّة، سعى الفريق المناوئ إلى ترويج فرضيّة سياسيّة فى التعاطى مع الأمر، تعسَّفت فى ربط الجريمة بالدوائر السيادية ومؤسَّسات المملكة، وبشخص ولىّ العهد تحديدًا، دون دليلٍ مُوثَّق.
رغم عدم توافر معلومات تُرجِّح رؤيةً ضدّ أخرى، كان باديًا أنّ ماكينةً ضخمة تنشط لتسييس واقعةٍ جنائية، وأنّ الكواليس تشهد خطّةً واسعة المدى لابتزاز الرياض، وتحصيل مكاسب مُباشرة بالوصول بالضغط إلى مداه الأقصى، خاصّة أن القضية تزامنت مع مُنزلَقٍ اقتصادىّ انحرفت إليه تركيا، تراجعت فيه عُملتها قُرابة 40%، وقفزت مُؤشِّرات البطالة إلى 14% والتضخُّم 18% والفائدة 24% والدَّين الخارجى 500 مليار دولار، وتراجعت مبيعات السيارات 46% والمنازل 12.5%، وانخفضت الودائع البنكيّة 30%.
مساعى تركيا لاستغلال قضيّة «خاشقجى» فى اشتباكها المُحتدم مع المُحيط العربى، ومُقاومة الانجراف مع مَوجة التراجع الاقتصادى، ظلَّت على حالتها المسعورة منذ وقوع الجريمة مطلع أكتوبر الماضى حتى الآن، وبالقدر نفسه لم تتوقَّف قطر، بإعلامها أو بالمساحات المدفوعة فى دوريات وقنوات عالمية، بينما كان قدرٌ من الأموال يأخذ مسارات أخرى، باتجاه إعادة القضية إلى واجهة المشهد، واختلاق حشدٍ دولىّ يُعزِّز رُؤية «أردوغان» ويزيد الضغوط على الرياض.
وجد الفريق ضالّته فى أنييس كالامار، المُقرِّرة بالمُفوّضية السامية لحقوق الإنسان، التى استعانت بها الأُمَم المُتّحدة لإعداد تقرير حول «خاشقجى»، أعلنته الأربعاء قبل الماضى ولم تُقدِّم فيه جديدًا، وإنّما مُجرّد استنتاجاتٍ وتحليلات تعوزها القرائن، ورغم اعترافها بعدم التوصُّل إلى شواهد تربط الجريمة بالقادة السعوديين، وضعت إحدى قدميها فى الملعب التركى، بالدعوة لاتخاذ مواقف مُباشرة بحقّ ولىّ العهد حتى يُثبت براءته، وكأنّها تعكس المبدأ القانونى القاضى ببراءة المُتّهم إلى أن تَثبُت إدانته، انحيازًا لغرض شخصى وغايات مُضمرة.
الجزيرة والمنصَّات التركية تبنَّت التقرير منذ إعلانه، ومارست تزييفا عامدًا بربط وظيفة «كالامار» فى المفوّضية بتحقيقها فى القضية، مُتجاهلة أنّها تصدَّت للأمر بصفة مُستقلَّة وليس باسم الأُمم المُتّحدة. خارجية أنقرة دعت العالم لتبنِّى التقرير، وقال وزير خارجيتها مولود أوغلو: «أدعم توصيات أنييس...»، بينما رفضته السعودية، وقال عادل الجبير: «حفل باتّهامات لا أساس لها، بما فى ذلك مُخالفة الاتفاقيّات الدولية، والتعرُّض المرفوض تمامًا لقيادة المملكة».
لا يُمكننى تقديم استخلاصٍ بشأن القضية، أو استباق جهات التحقيق ومعلوماتها. لكنَّ مُراجعة شخص المُقرِّرة تنثر مزيدًا من علامات الاستفهام بين سطور التقرير وتعبيراته. «كالامار» أمريكيّة مُرتبطة بتركيا منذ ربع القرن، إذ حصلت على الماجستير من جامعة «باشكنت» 1995، وعملت فى مُنظّمة العفو الدولية «أمنيستى» بين 1998 و2001، وهى جمعية مقرّها لندن، تربطها علاقات وثيقة بقطر والتنظيم الدولى للإخوان، وتُصدر تقارير تفتقد المنهجيّة والضبط وتوثيق الشهادات من مصادر شاملة، بينما يرى مُتابعون أنّها تُقدّم خدمات مدفوعة لعدّة جهات، وإلى جانب ذلك أسَّست «أنييس» جمعيّةً خاصّة فى 2001، اقتنصت لها دعمًا من الدوحة حتى 2004، ثم انتقلت إلى منظمة «المادة 19» المُرتبطة بعلاقات مع رجال أعمال أتراك، وفى 2013 أشرفت على برنامج «حرّية التعبير» بجامعة كولومبيا، بالتزامن مع وصول «تميم» لحُكم قطر، وهو العام الذى بدأت فيه الإمارة تمويل البرنامج بمِنَحٍ سنويّة ثابتة.
فى ضوء تلك الحقائق لا يُمكن اعتبار «كالامار» مرجعًا نزيهًا، كما لا يُمكن انتزاعها من سياق التلوين والابتزاز الذى مُورِس فى القضية، وإذا ربطنا علاقتها القديمة والمُتشعِّبة مع تركيا وقطر، بتجاوزات البلدين فى التعاطى مع الأزمة، نكون إزاء تواطُؤٍ مدفوعٍ يُراد له أن يأخذ طابعًا أُمَميًّا، ما يضعنا أمام جريمة أكثر فداحة من قتل «خاشقجى»، تتّصل بحدود استقلال المؤسَّسات الدوليّة ونزاهتها، خاصّة إذا وضعنا فى الاعتبار موقف المبعوث الأُممى غسّان سلامة المُساند لميليشيات ليبيا، ودعم نظيره مارتن جريفيث للحوثيين باليمن، وموقف جير بيدرسون المُعزِّز لمكاسب مُسلّحى سوريا، وكُلّها مآخذ وثغراتٌ تُوجِب التوقُّفَ والبحث عن وسائل لحصار التلاعب بركائز النظام العالمى، خاصّة من حكوماتٍ مُنحرفة، تدعم الميليشيات، وتصطاد المغانم عبر وكلاء، هم فى حقيقتهم إرهابيّون ناعمو الأداء، يُؤجِّرون المنصّات الدولية لأباطرة الإرهاب الخَشِن. يجب الانتباه سريعًا قبل أن تُصبح الأُمَم المُتّحدة حصان «طروادة» الذى يُعين فئران الترهيب والتخريب على اختراق جدران القانون الدولى، أو تجد نفسها أُلعوبةً، أو جسرًا يعبر عليه المارقون إلى غاياتهم السوداء!